الشيخ علي ذو علم
عن أمير المؤمنين عليه السلام: "وعليكم بالصبر، فإن الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد" (1) يبيّن الإمام علي عليه السلام في كلماته هذه حقيقة الإيمان وأنه ليس مجرد معرفة أو اعتقاد قلبي، بل بالإضافة إلى المعرفة الاعقتاد لا بدّ من وجود ركنين أساسين له هما الإقرار والإظهار باللسان والعمل بالجوارح والأعضاء. ويحتاج وجود هذين الركنين إلى عزم وإرادة وقدرة وثبات. ومن دون هذه الأمور لا يمكن للمعرفة القلبية أن تتحقّق وبالتالي لا يتحقق التوحيد الصرف والخالص. وكما يحتاج الإنسان إلى الصبر والاستقامة عند التزكية (وهي الخطوة الأولى في البعد العملي) فإنه يحتاجهما أيضاً عند القيام بالأحكام الدينية في المجتمع الإسلامي. الثبات أمر ضروري عند تنفيذ وإجراء الأحكام الإلهية وأيضاً لعدم ارتكاب المحرمات. ويحتاج الإنسان إلى الثبات أيضاً في حالتي الإقرار والإظهار اللساني والاعتقاد القلبي وذلك لمواجهة المشكلات والمنفرات وما قد يلجأ إليه بعضهم من أفكار وسخرية أو لجاجة وما شابه ذلك.
* وسيلة النجاة من المهلكات
وأما أهل الفلاح والصلاح فهم الذين يقولون إنّ ربنا اللَّه تعالى هو الإله الواحد الخالق للكون. والمؤمن في حركته هذه يحتاج إلى الصبر لمواجهة المشاكل والصعوبات المحتمل وجودها، سواء كان مصدرها الطبيعة والحوادث المترتبة عليها والتي تؤدي في غالب الأحيان إلى اليأس وسوء الظن باللَّه تعالى وبالتالي عدم الاهتمام بالتعاليم الإلهية فيكون الثبات هو الوسيلة الأساس للنجاة من هذه المهلكات، أم كان مصدرها فعل المخالفين للنظام الإلهي. وهنا يحتاج المؤمن إلى مقدار كبير من الصبر والتحمل والثبات والمقاومة ليتمكن من مواجهة أنواع الضغوطات التي يقوم بها المخالفون. والصبر هو الوسيلة الأساس التي يجب أن يلجأ إليها المؤمنون من أجل إجراء الأحكام الإلهية في المجتمع.
* أهم سلاح في الشدائد
الصبر والثبات في وصف الإمام علي عليه السلام لهما ثمرتا الإيمان واليقين. فالذي يمتلك اليقين والإيمان الراسخ بالحاكمية المطلقة للَّه تعالى على عالم الوجود ويعتقد بالنظام الأحسن، فإنه يؤمن من دون شك بالعدالة الإلهية، ويعتقد بالهدفية من خلق الإنسان والحكمة من وجود الصعوبات والبلايا ودورها في تربية الإنسان، وبعبارة أخرى هذا الشخص هو الذي يتمكن من الوصول إلى التوحيد الخالص وهو الذي يمكنه التعرف وبسهولة إلى هذه الفضيلة الأخلاقية العظيمة وتقويتها في نفسه وفي تجاربه الفردية والاجتماعية، وبالتالي يتمكن من تملك هذه القيمة المعنوية التي تسانده عند الشدائد. الصبر والثبات عند الإمام عليه السلام هما السند الأساس والعضد الرئيس للإنسان للتغلب على المصائب والشدائد. والصبر هو أفضل صفة أخلاقية وأهم سلاح يمتلكه الإنسان في مواجهة الشدائد. والصبر أهم زينة نزين بها الإيمان، والصبر أيضاً هو رأس الإيمان، فإذا فقدنا الصبر فلا يبقى للإيمان أي فائدة تذكر.
* الاضطراب يضعف روحيّة الفرد
المحرومون من هذه الفضيلة الأخلاقية سيكونون ضعافاً أمام الشدائد والصعاب ويبتلون بالاضطراب والتسرع. وهذا ما يؤدي إلى عدم قدرتهم على حل المعضلات التي يواجهونها. المبتلى بالاضطراب والتسرع يفقد القدرة على التعقل والتدبير والتخطيط، ولا يمكنه أن يمتلك تقييماً صحيحاً وحقيقياً لإمكانياته وقدراته المحدودة ليتمكن من خلالها من إيجاد الحلول المناسبة لما يعترض طريقه. حتى هذه الإمكانيات المحدودة تفقد دورها عند التعجل والتسرع من دون أن تساهم في مواجهة الشدائد والمشكلات. الاضطراب، الفزع والجزع في مواجهة الحوادث والمشاكل من الأمور التي تساهم في إضعاف روحية الفرد وتجعله عاجزاً عن التحليل الصّحيح والدقيق. هذه الأمور في حال وجودها تؤدي إلى إطالة مسير الوصول إلى الهدف وقد تؤدي في الكثير من الأحيان إلى عدم الوصول إليه على الإطلاق. وبالتالي يصبح التأخر في الوصول أفضل من عدم الوصول. طبعاً المسارعة إلى أعمال الخير أمر مطلوب وممدوح، لا بل ذو قيمة عالية في بعض الأوقات، إذ المقصود من السرعة هنا الاهتمام وعدم الكسل والضعف أمام الوصول إلى الهدف، لا بل تصبح السرعة هنا فضيلة لا تتنافى مع الصبر. الصبر لا يؤدي إلى التمهل والضعف ولا يقصد منه التسليم والسكوت أو رؤية واقع الأمور وعدم التوجه لإصلاحها، بل العكس صحيح، إذ الصبر والثبات من الصفات التي يحتاجها ذاك الشخص الذي يعرف الهدف ويسعى جهده للوصول إليه. إلا أن المشكلات قد تظهر له أثناء الطريق فعليه أن يكون بمستوى عظمة الهدف فيتحلى بالصبر والثبات ليظهر إصراراً وقدرةً أكبر في الوصول.
* في سبيل الوصول إلى الهدف
أولئك الذين يواجهون العدو بالتسليم والرضوخ فإنهم في الواقع يفقدون فضيلة الصبر. أما الموجودون في ساحة المبارزة سواء المبارزة مع العدو الداخلي والنفس الأمارة أو العدو الخارجي فإن أكثر ما يحتاجونه هو الصبر؛ والثبات، ليتمكنوا من الوصول إلى الهدف رغم صعوبة الطريق. المستسلم لا يحتاج إلى الصبر لأنه لا يتحرك حتى يحتاج إليه، ولا يقوم بأي عمل جهادي ليحتاج إلى الثبات. الصبر هو تلك الصفة التي يحتاجها المؤمن والساعي ولذلك كان الصبر عند هؤلاء رأس الإيمان، إذ بدونه يصبح الإيمان كالميت الذي لا يقوى على الحركة.
* الصبر مفتاح النصر
يؤدي الصبر إلى تذليل العقبات وتسهيل المصائب والشدائد وهذا بحد ذاته نصر كبير، والصبر عدا عن أنه يؤدي إلى النصر فهو مفتاحه والأكثر من هذا هو عين النصر. وللصبر فوائد ليس فقط في الأبعاد الفردية، بل حتى في الأبعاد الاجتماعية والوطنية أيضاً. فكلما تحلّى قادة المجتمعات بالصبر والثبات في مواجهة الضغوطات السياسية والإعلامية والثقافية والاقتصادية والعسكرية التي تأتي من الخارج، كلما ساهموا أكثر في ترقي واستقلال أوطانهم. والعكس صحيح فيما لو فقدوا هذه الفضائل الأخلاقية فإنهم سيفتحون باب الهزيمة أمام مجتمعاتهم. وهنا نمتلك نماذج كثيرة، فلو عدنا إلى عهد الإمام علي عليه السلام لوجدناه يتوجه باللوم إلى الأصحاب الذين لم يتسلحوا بالصبر والاستقامة في مواجهة ما يعترضهم، لا بل كانوا عند الجهاد يظهرون أشكال الضعف والهزيمة. نعم القادة الإلهيون ومن خلال صبر وثبات شعوبهم يتمكنون من تحقيق الأهداف الإلهية المتعالية فيصبحون قادرين على هزيمة الأعداء.
(1) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج 1، حكمة رقم 82 ص 324.