بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ (العلق: 1-5).
بهذه الآيات المباركة، استهلَّ النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم بعثته النبويّة الشريفة، في السابع والعشرين من شهر رجب الأصبّ، مطمئنّاً ومستبشراً بالمهمّة التي شرّفه الله بها، عبر الملك جبرائيل عليه السلام في غار حراء. وفي هذا المجال، يشرح الإمام الخميني قدس سره الغاية من هذه البعثة، وواجبنا تجاهها.
* غاية البعثة
1- الاستفادة من القرآن الكريم
قال الله تبارك وتعالى في سورة الجمعة (الآية: 2): ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ...﴾. هذه الآية الشريفة تذكر أنّ غاية البعثة هي إنزال هذا الكتاب العظيم من عالم الغيب إلى عالم الشهادة عبر بعثة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم؛ فهو مائدة بسطها الله تبارك وتعالى للبشر جميعاً، لكي يستفيدوا منها، كلٌّ بحسب استعداده؛ العاميّ، والعالِم، والفيلسوف، والعارف، والفقيه... ففيه كلّ المسائل السياسيّة، والاجتماعيّة، والثقافيّة، والعسكريّة، وغيرها. ومع الأسف، لم يتمكّن المسلمون من الاستفادة من هذا الكتاب المقدّس كما يجب، لذلك عليهم أن يُعمِلُوا أفكارهم وعقولهم، ليستفيدوا منه في مسائل حياة هذه الدنيا وحياة ذلك العالم أيضاً.
2- التزكية لإبصار نور الكتاب
﴿وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ (آل عمران: 163). إنَّ غاية تلاوة القرآن هي أن تتحقّق تزكية النفوس وصفاؤها من الظلمات والتلوّثات الموجودة فيها، ومن الأهواء النفسيّة؛ لتكون قادرة على فهم الكتاب والحكمة، وإبصار النور المتجلّي والمتنزّل من الغيب الذي وصل إلى الشهادة. فطالما أنّ الإنسان غارق في حجاب نفسه، فإنّه لن يستطيع أن يبصر نور القرآن، ولن يتأهّل لينعكس النور الإلهيّ في قلبه، ما دام أسيراً لأهوائه النفسيّة وأنانيّته. فالذين يريدون أن يفهموا القرآن ومحتواه، بحيث إنّهم كلّما قرأوا أكثر، ارتفعوا واقتربوا من مبدأ النور أكثر، لا بدّ لهم من رفع حجاب النفس من الداخل، حتّى يبصروا النور كما هو. فالتزكية أوّلاً، ثمّ يتأهّلون لتعلّم الكتاب والحكمة.
3- التزكية للخلاص
ورد في سورة العلق قوله تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى﴾، وهي من أوائل الآيات النازلة. وعليه، ومن أجل سحق الطاغوت، يجب تعليم الكتاب، والحكمة، والتزكية. ففرعون، الذي يسمّيه الله تبارك وتعالى طاغية، حصل على منصب مجرّد من الغاية الإلهيّة، فجيّره إلى الطغيان. والأشخاص الذين يحصلون على أشياء مرتبطة بالدنيا، من دون تزكية النفس، فإن طغيانهم سوف يزداد.
إنّ أساس الخلافات كلّها التي بين البشر كلّهم هو الطغيان الموجود في نفوسهم، وخضوعهم للأهواء النفسانيّة. فلو اجتمع الأنبياء العظام كلّهم في مدينةٍ ما، فإنّهم لن يختلفوا فيما بينهم أبداً؛ لأنّهم أزكياء النفوس، ويملكون العلم والحكمة. فيجب على المُربّين أن يكونوا قد زكّوا أنفسهم سابقاً وربّوها، لكي لا يطغوا ويرتكبوا أعمالاً شيطانيّة.
لذلك، تهدف البعثة إلى أن تخلّصنا من هذا الطغيان، وأن نزكّي أنفسنا، وأن نصفّيها، وأن نخلّصها من هذه الظلمات، وبذلك تجري السيطرة على نفوس العصاة والطغاة. فلو حصل هذا التوفيق للجميع، ستصبح الدنيا نوراً واحداً كنور القرآن.
* التزكية ضرورة
إنّ هذا التهذيب ضرورة لرجال الدولة، وللسلاطين، ولرؤساء الجمهوريّات والدول أكثر من الناس العاديين؛ فإنّ طغيانهم يجرّ بلداً إلى الفساد، وأحياناً قد يجرّ عدداً من البلدان. فالحربان العالميّتان الأولى والثانية مثلاً، حصلتا لأنّ الطبقات العليا المتمثّلة بالرؤساء قد طغت، فجرّت دولاً كبيرة نحو الفساد. فإذا أُريد إصلاح بلدٍ ما، فيجب أن يبدأ الإصلاح من الأعلى، وليس من الأسفل؛ أي بمن يمسكون بزمام الأمور. يجب الالتفات إلى تعليمات الإسلام وغايته من البعثة، التي هدفها الأساس هداية الخلق أجمع، فإنّ أحد تعليماته، هو: ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى﴾.
* نتائج التزكية
إنّ من نتائج تزكية النفوس أن تنتهي الأنانيّة، والتكبّر، وحبّ الذات، وطلب الرئاسة، وحبّ الدنيا وطلبها؛ ليحلّ محلّ ذلك كلّه حبّ الله تبارك وتعالى. فغاية البعثة هي أن تحكم حكومة الله قلوب البشر، حتّى تحكم المجتمعات البشريّة.
لقد أتت البعثة من أجل التزكية، التي إن لم تتحقّق يُصبح كلّ ما يحدث للنفس حجاباً عليها. كلّنا مكلّفون بتزكية أنفسنا؛ لكي نستفيد من النور الإلهيّ، ونور القرآن.
(*) كلمة ألقاها روح الله الإمام الخمينيّ قدس سره بمناسبة بعثة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، طهران - حسينية جماران، تاريخ: 27 رجب 1401هـ.ق.