الشيخ تامر محمد حمزة
إن هجرة النبي صلى الله عليه وآله إلى يثرب من الأحداث التاريخية المهمة بالنسبة
للدعوة ومن المفاصل الأساس في حركة الرسالة، إذ يعتبر قرار الهجرة من الإجراءات
التكتيكية لخدمة الأهداف الإستراتيجية الأمر الذي ساعد الرسول صلى الله عليه وآله
في السيطرة التامة على مكة لينطلق بعد ذلك في نشر الدعوة. لقد حققت هجرة
النبي صلى الله عليه وآله بناء قوة فاعلة ومؤثرة استعملت بعد ثماني سنوات لفتح مكة
والقضاء على رموز الشرك وتحطيم أصنامه لتتهيأ الأرضية الصلبة والمتماسكة لنشر
الرسالة خارج نطاق الجزيرة العربية. وسنشير إلى أهم مفاصل وأحداث هذه الحقبة ضمن
مراحل ثلاثة.
المرحلة الأولى: أضواء على أهم الأحداث قبل الهجرة
بقي الرسول صلى الله عليه وآله في مكة المكرمة ثلاثة عشر عاماً بعد البعثة ينشر
فيها الإسلام، قضى منها ثلاثة أعوام سراً وعشرة جهاراً. وقد واجه المشركون النبي
صلى الله عليه وآله في هذه المرحلة بكل ما لديهم من قوة في محاولة منهم لتشويه
صورته وقتل أصحابه تارة إلى محاصرته تارة أخرى في شعب أبي طالب، والسعي منهم لتحويل
الحامي عنه (أبو طالب) إلى وسيط بينه وبينهم, ولكّن العزيمة الفولاذية التي ملكها
صلى الله عليه وآله وثباته على الحق جعلته يثابر ويستمر في نشر الدعوة المباركة فلم
يهن ولم يحزن أمام التهديدات فضلاً عن السقوط أمام التحديات حتى السنة التي فقد
فيها عمه أبا طالب وزوجته خديجة عليها السلام. ويعتبر رحيل عم الرسول صلى الله عليه
وآله تطوراً جديداً على مستوى التبليغ حيث أدى ذلك إلى فقدان الحصن الذي أوى إليه
النبي صلى الله عليه وآله وترك أثرين سلبيين على المجتمع وفي مواجهة المشركين:
أ- انخفاض نسبة تأثير الدعوة في المجتمع المكي وتدني مستوى فاعليتها فيه.
ب- بعد وفاة أبي طالب صارت المواجهة مباشرة بين الرسول صلى الله عليه وآله
والمشركين خاصة وأن المشركين قد طوّروا في إجراءاتهم حتى بلغ الأمر بهم إلى اتخاذ
القرار بتصفية النبي صلى الله عليه وآله بطريقة تجعل بني هاشم أمام خيارين: إما
قبول الدية وإما مواجهة جميع القبائل العربية, وينقل في هذا المضمار أنه قد اجتمع
أشراف قريش في دار الندوة ولم يتخلف منهم أحد (بنو عبد شمس, ونوفل, وعبد الدار,
وسهم, وأسد, ومخزوم, وغيرهم) وشرطوا أن لا يدخل معهم تهامي لأن هوى التهاميين كان
مع محمد صلى الله عليه وآله كما أنهم حرصوا على أن لا يكون عليهم من الهاشميين أو
من يتصل بهم عين أو رقيب (1). وبعد التداول وقع الاختيار على رأي أبي جهل بأن
يأخذوا من كل قبيلة فتى جليداً نسيباً وسطاً ثم يعطى كل منهم سيفاً صارماً فيعمدوا
إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فيضربوه ضربة رجل واحد فيقتلوه (2) ويتفرق دمه في
القبائل لأن بني عبد مناف لا يقدرون على حرب قومهم جميعاً فيضطرون إلى القبول
بالدية فيعطونهم إياها وينتهي الأمر. وقد أخبر الله عزّ وجلّ نبيه الأكرم صلى الله
عليه وآله بهذه المؤامرة في قوله تعالى:
﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ
اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾
(الأنفال: 30)
* لماذا المدينة؟
إن اختيار النبي صلى الله عليه وآله للمدينة لتكون هدفاً لهجرته كان متطابقاً مع
الحكمة ومنسجماً مع المصلحة العليا بغية استمرار الدعوة. وربما اكتشفنا بعض العلل
أو الحِكَم لاختيارها من قبل النبي صلى الله عليه وآله فيما يلي:
أولاً:
تعتبر مكة أهم حقل لتبليغ أي دعوة بسبب موقعها الديني للطائفين والمعتمرين وأفضل
مركز اقتصادي لكونها تشكل سوقاً مهماً لكل التجار وغير ذلك, وإذا تعذر نشر الرسالة
فيها فلا بد من اختيار أقرب الأمكنة والبقاع منها ولأجل ذلك تم اختيار المدينة.
ثانياً:
نجاح الدعوة يقوم على مجموعة مقومات منها الجانب الاقتصادي. وبما أن المدينة كانت
منطقة زراعية بامتياز فلو تعرض النبي صلى الله عليه وآله للحصار فإنها تساعد
المحاصرين على الصمود والاستفادة من خيراتها وهكذا في حالة الرخاء فاعتماد الدعوة
على هذا الجانب يجعلها أكثر متانةً وقوة.
ثالثاً:
إن الموقع الجغرافي للمدينة بين مكة والشام وفّر للدعوة ظروفاً ملائمة بالنسبة إلى
إحكام السيطرة على حركة التبادل التجاري لقريش.
رابعاً:
إن المجتمع المدني بالأصل من مهاجري اليمن التي كانت تمتلك شيئاً من الحضارة
البدائية ولذا كانوا يملكون قلوباً شفافة ليست مشابهة للقلوب القاسية التي ابتليَ
بها المجتمع المكي.
خامساً:
لا جدوى من الهجرة إلى نقطة قريبة من مكة كالطائف بعد رفض مجتمعها لدعوة النبي صلى
الله عليه وآله حينما عرض عليهم الإسلام. وهكذا فإن الهجرة مستبعدة إلى اليمن وفارس
والروم والشام فهي بعيدة من جهة وخاضعة للإمبراطوريتين الفارسية والرومانية من جهة
أخرى وإن نشر الرسالة فيها أشبه بمن يملأ الماء بالغربال.
المرحلة الثانية: الاستعداد للهجرة
بعد بيعة العقبتين الأولى والثانية بين النبي صلى الله عليه وآله ومجموعة من أهل
المدينة تهيأت الظروف المكانية والزمانية للهجرة. ومن الملاحظ أنه قبل مضي فترة من
بيعة العقبة الثانية رخص النبي صلى الله عليه وآله لأصحابه بالهجرة إلى المدينة دون
أن يشعر بذلك أحد من أهل مكة.
مدرسة الإيثار والتضحية
بعد أن أوحى الله عزّ وجلّ لنبيه الأكرم صلى الله عليه وآله وأخبره بمكر المشركين
أخبر صلى الله عليه وآله بدوره الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام عن ذلك فقال
للنبي صلى الله عليه وآله: أوتسلم بمبيتي... يا نبي الله؟ قال: نعم, فتبسم علي
ضاحكاً وأهوى إلى الأرض ساجداً شكراً لله, فنام على فراشه مشتملاً ببرده الحضرمي ثم
خرج النبي صلى الله عليه وآله في فحمة العشاء, والرصد من قريش قد أطافوا بداره
ينتظرون, فخرج النبي صلى الله عليه وآله(3)وهو يقرأ قوله تعالى:
﴿وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ
سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ﴾
(يس: 9) من أولئك الذين انتدبوا لمهمة مباغتة النبي صلى الله عليه وآله
وقتله: الحكم بن أبي العاص وعقبة بن أبي معيط, والنصر بن الحارث, وأمية بن خلف,
وزمعة بن الأسود, وأبو لهب وأبو جهل وأبو الغيطلة وطعمة بن عدي, وأُبيّ بن خلف
وخالد بن الوليد, وعتبة وشيبة وحكيم بن حزام ونبيه ومنبه ابنا الحجاج (4).
* لمَ بات علي عليه السلام في فراش الرسول صلى الله عليه
وآله؟
لقد لف علي عليه السلام رأسه في الثوب ونام على فراش رسول الله صلى الله عليه وآله
ثم أقبلت تلك المجموعة فأخذت ترمي فراش النبي صلى الله عليه وآله بالحجارة ثم هجموا
عليه فلما بصر علي عليه السلام بهم وثب عليهم, فأجفلوا أمامه إجفال النعم إلى خارج
الدار وتبصروه فإذا علي عليه السلام، قالوا: وإنك لعلي؟ قال: أنا علي. قالوا: فإنا
لم نردك، فما فعل صاحبك؟ قال: لا علم لي به (5). قد يتساءل المرء عن أن النبي صلى
الله عليه وآله بعد خروجه من داره هو في مأمن وأن مبيت علي عليه السلام على فراشه
لا يزيد شيئاً من توفير الأمن والأمان للنبي صلى الله عليه وآله. ففي مقام الجواب
نقول إن النبي صلى الله عليه وآله يريد أن يظهر منقبة من مناقب علي عليه السلام
ولذا ما قام به أضحى مدرسة نتعلم فيها معنى الإيثار والتضحية هذا من جهة ومن جهة
أخرى حتى لا يشعر المشركون بالنصر بإخراج النبي صلى الله عليه وآله من مكة بل
يتذوقون مراراة المواجهة العسكرية وفشل مخططهم الأمني مما يدخل عليهم الخيبة ويثير
فيهم الإحباط.
* المرحلة الثالثة: النبي صلى الله عليه وآله بين الدعوة
والدولة
بعد وصول النبي صلى الله عليه وآله إلى موطنه الجديد، ووصول من سبقه من المهاجرين
ومن لحق به منهم, كان أول ما قام به هو بناء المسجد ليكون جامعاً لكل نقاط الاشتراك
بين المسلمين ولاغياً لنقاط التمايز بإلغاء الفوارق المناطقية والقبلية على أن يكون
الأفراد عناصر مهمة في بناء الأمة ولذا نجده قد آخى بين المهاجرين والأنصار وأصلح
بين قبيلتي الأوس والخزرج حيث كان النبي صلى الله عليه وآله يهدف إلى بناء الدولة
والمؤسسات. ومن المعلوم أن أخطر عوامل مهددة للبنيان المتراص بل تزعزع قواعده وأسسه
النزاعات العصبية والقبلية بل إن المشروع الإستراتيجي الذي هيأ مقدماته رسول الله
صلى الله عليه وآله هو العودة والدخول إلى مكة بالقوة والعزة والعزيمة والإرادة.
والجدير بالذكر أن الهجرة إلى المدينة بكل تفاصيلها لم تكن هدفاً بعيداً بل هي
مقدمة لهدف غير قريب وهو إقامة الدولة في مكة لتكون منطلقاً لدولة التوحيد في الأرض.
(1) السيرة الحلبية، الحلبي، ج 2، ص 25.
(2) الغدير، الشيخ الأميني، ج 10، ص 81.
(3) الأمالي، الشيخ الطوسي، ج 2، ص 80 81.
(4) بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 19، ص 72.
(5) الأمالي، الشيخ الطوسي، ج 2، ص 82 83.