مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

أساليب الاستكبار في الإيقاع بين المسلمين

مقابلة مع الشيخ نجف علي ميرزائي

حوار: عدي الموسوي


مما لا شك فيه أن الأمة الإسلامية كانت ومنذ مئات السنين عرضة لموجات من الغزو الاستعماري التي تنوّعت أشكالها وتباينت أساليبها عبر العصور. مؤخراً برزت الهجمة الاستعمارية الثقافية التي باتت النمط الاستعماري الجديد الذي يسعى للسيطرة على البلدان الإسلامية عبر تقويض جبهتها الداخلية تمهيداً للنفوذ إليها والهيمنة عليها. وهنا تبرز الأحداث الأخيرة التي شهدتها الساحة الإيرانية بعد الانتخابات الرئاسيّة، كنموذج لهذا المشروع الاستعماري - الثقافي الجديد. عن هذه القضية كان هذا الحوار مع الباحث والمفكّر فضيلة الشيخ نجف علي ميرزائي، مدير مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، حيث استهل حديثه بمقدمة تعرّف بالمراحل التي مرّ بها الاستعمار الغربي لدول العالم والعالم الإسلامي بشكل خاص.

* مراحل الاستعمار الغربي:
- مرَّ الاستعمار الغربي للعالم الإسلامي ولشعوب العالم الثالث، بعدة مراحل على صعيد تسويقه وتحقيقه. ويمكن هنا تمييز وتشخيص ثلاث مراحل لهذه العملية الاستعمارية: المرحلة الأولى هي المرحلة الأقدم التي شهدناها في القرون الماضية ضد دول العالم الثالث وشعوبه بشكل عام، وفيها كان الاستعمار يستعين بالعمليّات العسكريّة والاحتلال المباشر للسيطرة على الثروات والخيرات الطبيعيّة والمصادر البشرية. هذا الشكل الاستعماري المباشر واجه أزمة كبيرة، عندما باتت الشعوب المستعمَرة تملك الوعي الكافي لمواجهة الاحتلال، هنا أدرك الاستعمار أنه من الضروري إعادة النظر في آليات عمله كي يستمر ويستعيد المبادرة، ما أوصله إلى ضرورة اعتماد النمط الاستعماري الثاني الذي يقوم هذه المرة عبر النفوذ إلى داخل البُنى الإدارية لهذه البلاد وزرع الكوادر البشرية التي تتناسب مع أهدافهم، فيكون الاستعمار غير مباشر، وهكذا تجري العمليّة الاستعمارية عبر وسطاء وعملاء من البلد نفسه. المرحلة الثانية تراجعت بشكل تدريجي في بعض الدول وبقيت في أخرى حتى يومنا هذا. وهو ما أدّى إلى نشوء المرحلة الثالثة، وهي مبنية على بذل الجهود والتخطيط لإعادة صناعة الوعي في هذه البلاد، وإعادة تشكيل الرأي العام فيها، واستثمار هجرة الأدمغة إليها لأجل تحويل أصحابها في الجامعات والمعاهد الغربية إلى عناصر استعمارية غير مباشرة. فبعد عودة هؤلاء إلى بلادهم، يتحوّلون إلى أدوات تروّج للفكر والوعي الغربي وتنشر قيمه وثقافته وفنونه. ومن أبرز تجليّات المرحلة الثالثة من الاستعمار، ما بات يعرف بالثورات المخمليّة أو الملوّنة.

* العمليات العسكرية تقلب الموازين:
* قبل أن نستطرد فضيلة الشيخ لفتني هنا أنّك ذكرت أن المرحلة الثالثة من الاستعمار تبتعد عن الشكل العسكري، ولكننا نلاحظ أن أمريكا قد اعتمدت الغزو العسكري أو التهديد به كما جرى في أفغانستان والعراق. العمليات العسكرية هنا هي ليست من النمط الاستعماري الأول الذي تحدّثنا عنه، فهي في النهاية لا تهدف إلى إبقاء العسكر أو السيطرة العسكرية، هذا فضلاً عن أنّها تكون مدعومة وشرعية وفق القانون الدولي والشرعية الدوليّة كما يسمّونها. هذه العمليات هي في الواقع تأتي لتقلب موازين السلطة، تمهيداً للاستعمار بنمطه الثالث.

* يعني هو تدخّل عسكري لتمهيد طريق السلطة أمام الكوادر التي صنعوها في أمريكا والدول الغربيّة؟
- بالضبط، فالنمط الثالث من الاستعمار إنّما يجري من خلال الرهان على التحوّلات التي تحصل في الوعي العام والثقافة والرؤيا. هناك صناعة للرؤيا والوعي عبر الأدوات الفنيّة والإنترنت والإعلام والتلفزيون، لإعادة صناعة الإنسان الشرقي من جديد. فالإنسان تكمن قيمته في رؤيته وفي فكره وفي ما يؤمن به. فإذا استطعت تغيير القيم عند أحد فهذا يعني أنّك غيّرته، وغيّرت إنسانيته. مثلاً، هناك الملايين التي لا يستهان بها من شعوب العالمين العربي والإسلامي ممن ينظرون إلى الحياة بعيون أمريكية أو غربية. نحن نعيش لحظة مخاض أو مخاضات عبر ما يسمّى بالثورات المخمليّة أو الناعمة التي تتحقق بالتدريج، وعبر تراكمات طويلة الأجل، وهو ما يتطلّب منّا مواجهتها باللغة نفسها والمنطق نفسه. قد تملك السلاح العسكري لمواجهة العدو، ولكن قد لا تملك سلاحاً يواجه تهديد الفن والإعلام، فإعلامنا حتى الآن لا يمكنه الصمود أمام إعلام الغرب. نحن لا نملك القنوات الفضائية الكافية، لا نملك آليات الإنتاج المناسبة لإنتاج المواد الإعلامية والفنية المناسبة. إذاً، نحن أمام شراسة إعلامية وفكرية مدمّرة، تسعى إلى احتلال العقل، وهو احتلال أخطر بكثير من احتلال الأرض.

* الثورة المخملية أو الناعمة:
* في معرض حديثك عن هذه الهجمة الاستعمارية التي تسعى إلى احتلال العقل وتغيير الوعي، ذكرت الثورات المخملية كنموذج بارز في هذا الصعيد، كيف هذا؟

- الثورات المخمليّة أو الناعمة أو الملوّنة - سمّها ما شئت - هذه الحركات لا تحصل فجأة، فالغزو الناعم يطرق بلادنا ويتغلغل فيها منتظراً ساعة الصفر أو الذريعة المناسبة للقيام بالتغيير المنتظر، والذريعة هي إمّا دعوى تزوير للانتخابات، أو حادث مقتل لامرأة أو شخصية ما، أو أي سيناريو مفتعل. وهنا أنا أحذّر أولئك الذين يتعاطون مع الوقائع تعاطياً سياسياً سطحياً فأقول لهم: إن الأمر أخطر وأعمق مما يعتقدون، نحن أمام تحوّلات جذرية مخملية وغير مخمليّة، هي تحصل عبر زمن طويل، وهناك بداية عملية لتغيير الوعي لدى بعض الشرائح الاجتماعيّة، ثم التأثير على هؤلاء ليتحرّكوا وفق رؤيتهم الفكرية والقيميّة الجديدة التي هي رؤية غربية لا علاقة لها بثقافتنا وقيمنا. وأنا سأطرح لك نموذجاً بسيطاً: الأفلام الغربية التي تروّج للقيم الإباحية، هذه الأفلام لا توجّه أيّة إهانة مباشرة لأية شخصية بالخصوص، هذا في الظاهر، ولكنها في داخلها، وعبر تكرارها وتكرار قيمها المنحرفة على المشاهدين، هي تفرغ عقول الشباب شيئاً فشيئاُ من قيم الكرامة والشرف والعفة والحياء والحلال والحرام من خلال اعتياد المشاهد والقيم والثقافة الإباحيّة، فيصبح الفساد الأخلاقي والعلاقات المحرّمة مسألة مألوفة، فيضربون بهذا كل القيم الإسلامية بشكل غير مباشر. إذاً، الوعي لدى جيل الشباب الإسلامي يصبح وعياً غربياً من خلال القيم التي اعتادها وألفها.

* أدوات الاستعمار الداخلية:
* وهكذا يصبح جيل الشباب المسلم يحمل القيم الغربية بطريقة غير مباشرة، هذا إذا لم يروّج لها؟

- بالضبط، وهنا تجدر الإشارة إلى أن العملية الاستعمارية الحديثة لا تحصل بأدوات خارجية فقط، فالخارج لا بد له من الاستعانة بالداخل. من جانب آخر، لا يعتقدنَّ أحد أن هذا النوع من الاستعمار الثقافي لا يحتاج إلى العنف بل هو عادة بحاجة إليه، فمثلاً ما جرى في إيران مؤخراً، هنا، النخب الثقافية والمؤسسات الإعلامية المعادية كانت تنتظر بعض التصعيد أو العنف ليسلّطوا الضوء عليه ويركبوا موجته، من دون أن يحدثوه بحسب الظاهر. أما الأخطر هنا فهو في النخب الثقافية التي تتحرك في الداخل في هذا الاتجاه وتؤثر فيه من حيث تدري أو لا تدري، ويتخذون من عملهم الثقافي أو الإعلامي غطاءً لهم، فلا يكفي مواجهتهم قضائياً أو أمنياً بل تجب مواجهتهم إعلامياً وفكرياً.

* من خلال ما شهدته الجمهورية الإسلاميّة في إيران مؤخراً، هل يمكنك أن تقدّم لنا نموذجاً عن هذه الأساليب؟

- مثلاً، عن دور قناة الـ BBC الناطقة باللغة الفارسية، هذه القناة كثّفت نشراتها وموادّها الإخباريّة عن إيران، إلى درجة أن أي إنسان منصف وعاقل لا يمكنه إنكار أن هذه القناة الحكوميّة البريطانيّة كانت تهدف إلى إحداث تغيير جذري داخل إيران، لذا كان من الأفضل أن يكون الرد على هذه القناة عبر قناة تلفزيونية محلّية يتشارك فيها الجميع لأجل إيصال المعلومة الصحيحة إلى الشعب بشكل واضح وشفّاف، وإلاّ فإنّك ستفسح بالمجال لأبناء الشعب كي يستقوا المعلومات عبر متابعة قنوات مثل الـ BBC وغيرها من القنوات المشبوهة، دون إرادة منها أو قصد، وهنا شكل من أشكال إعادة بناء الوعي.

- أسلوب الغرب في هذا المجال يعتمد على منح مشروعهم أجمل العناوين وأكثرها بريقاً، والتي هي في أغلبها تجذب الفئة الشابة. المشكلة هنا مناطق الفراغ الفكري، وهذه المناطق هي التي يستغلّها الاستعمار الثقافي الجديد، في محاولة لملئها بمضمون ما، لينفذ من خلاله لبناء وعي ثقافي جديد ينسجم مع مشروعه. مثلاً، شريحة واسعة من النساء العربيات والمسلمات تسعى وتعمل وتحلم بتقليد المرأة الغربية، ظناً منها أن هذه المرأة سعيدة، فتعمل لتحقيق مستوى الحرية ذاته وبذات التفاصيل. ولكن المرأة العربية والمسلمة في كثير من الأحيان تجهل أن المرأة الغربية ليست سعيدة، وهي ليست المرأة التي تقدّمها هوليوود، هذا فضلاً عن أن النظام الغربي الاجتماعي والأُسري، هو غير النظام الاجتماعي والأسري العربي والإسلامي، فالمرأة الغربية لم تعد تلعب دور الزوجة والأم بالكيفية الحاصلة لدينا، فهل المرأة عندنا جاهزة مثلاً لأن تتخلّى عن أمومتها، هل هي جاهزة؟!

* أدوات تسويق الوعي الغربي:
* أعود للحديث عن أبرز الأدوات المستخدمة في مجال تسويق الوعي الغربي.

- أولاً: التركيز على المفاهيم القيميّة البرّاقة، فهم في الوقت الذي يدمّرون فيه القيم والأخلاق من خلال الاستعمار وانتهاك حرمات وكرامات الإنسان، يروّجون للمفاهيم الجذّابة: الحريّات، حقوق الإنسان، حقوق المرأة.. إلخ. هناك نفاق أي إظهار شيء واستبطان شيء آخر. وهنا يحضرني ما قاله سماحة الإمام الخامنئي في معرض حديثه عن رسالة الرئيس الأمريكي أوباما للشعب الإيراني، قال السيد القائد: "نحن مع اليد التي تمتد إلينا بصدق، ولكننا ضد اليد التي تمتد نحونا وهي ترتدي قفازاً حريرياً لتغطّي قبضة حديديّة". ثانياً: الإبهار الشكلي والجمالي، فالإنسان بطبعه ميّال للجمال والمظاهر الجميلة. الغرب يهتم بهذا الموضوع ويروّج لثقافته عبره، ليجذب عقول الناس وعواطفهم! ثالثاً: الفنون الجميلة وبالتحديد السينما التي غدت اليوم وسيلة تغيير وتأثير غير مباشرة، وهو أسلوب مناقض لأساليبنا الإرشادية المباشرة التي غدت تنفّر شريحة واسعة من الناس، أمّا الغرب فعبر أفلامه السينمائية المتقنة وذات الموازنات المالية الهائلة، كثيراً ما أحدث أو مهّد لتغييرات فكرية عبر اعتماد أساليب الخطاب غير المباشرة. رابعاً : مسألة جذب النخب وتسخيرها من حيث تدري أو لا تدري للترويج للقيم والثقافة الغربية.

* ختاماً، كيف تنظر إلى دورنا كأناس عاديين في مواجهة هذه الحملة الاستعمارية الثقافية؟
- أنا أظن أن هذه الهجمة الثقافية التي نشهدها هي فوق قدرة الإنسان العادي كي يواجهها، ولكنه على الأقل يمكنه أن يحذّر مَن حوله منها، غير أن التحذير يظل قاصراً ما لم يجرِ إيجاد البديل. أنا شخصياً ومنذ سنوات دعوت إلى تأسيس قناة المنار الثقافية، لتركّز على عرض الأفلام والمسلسلات والبرامج الترفيهيّة التي تكون البديل المنافس ولو بالحد الأدنى عن البرامج الفاسدة التي يجب علينا حماية الشباب منها. وأنا أعتقد أن أهمية هذا الموضوع لا تقل عن أهمية بناء وتأسيس عشرات المساجد. أمّا على صعيد الأفراد، فيجب على كل فرد منّا السعي لكي يصون نفسه وأهله، وهو واجب لا يسقط عن أحد، عليّ مثلاً أن أجلس كل فترة مع أفراد أسرتي، وأبيّن لهم بأسلوب عقلي هادئ حقيقة ما يجري على صعيد الغزو الفكري عبر الوسائل الإعلامية والثقافيّة المختلفة، وأننا نواجه محاولات لغزوين أحدهما أخطر من الآخر: غزو الأرض وغزو العقل والوعي. وفي النهاية أنا أعتقد أننا في هذه المعركة لا نعيش أزمة إمكانات بل أزمة إدارة لهذه الإمكانات، لا نعيش أزمة وعي بل أزمة إدارة هذا الوعي، بل إن الكثير من الناس –وللأسف - ما زالوا غير مؤمنين بخطورة الغزو الثقافي، هذا إذا كانوا يؤمنون بوجود هذا الغزو أصلاً.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع