محمّد لمع
لم أتوقّع أن تكون إصابته في رقبته بهذا الشكل. ظننت أنّها شظيّة صغيرةٌ خارجيّة،
لكنّها لم تكن كذلك، بل كانت طلقةً كاملةً استقرّت قرب حنجرته وكادت أن تذبحه.
بصوته الذي يخرج بصعوبة بعد أن يضغط على مكان الإصابة، ليمنع تسرّب الهواء، أخذ
يروي محمّد(1) كيف أصيب.
* انتحاريّون وسط الصحراء
في صحراء حمص، المنطقة الممتدّة بين تَدْمُر ومحطّات خطِّ نقل النفط المسمّاة T2
وT3 وغيرها، صحراءُ شاسعةٌ مفتوحةٌ على بادية دير الزور والسخنة.
كنّا كحبَّة رملٍ وسط هذه الصحراء الكبيرة. إمكاناتنا قليلةٌ، فلم يمرّ الكثير على
تمركزنا في الـT2، بل كنّا قد دخلناها قبل أيّام فقط بعد مواجهةٍ عنيفةٍ مع مسلّحي
داعش المعروفين بشراستهم بالقتال حتّى الموت، وأكثر من ذلك، معظهم انتحاريّون.
بين خراب المباني المدمّرة، ووسط مناخٍ قاسٍ لاهبٍ نهاراً وباردٍ ليلاً، نصبنا
خيامنا وأقمنا في ظروفٍ قاسيةٍ لا تشبه بيئتنا الأصليّة في لبنان، لا في المناخ ولا
في التضاريس. أمّا الدواعش، فأبناء الأرض والصحراء. تلك كانت بيئتهم التي يتأقلمون
معها ويستفيدون منها. وما كان بالنسبة إلينا كارثةً كانوا يجدون فيه فرصةً، تماماً
كما استفاد المجاهدون من الضباب للتنقّل من وإلى جبل صافي وسجد والرفيع، استفاد
الدواعش من العواصف الرمليّة.
* الخطر محيطٌ بنا
لا يعرف المجاهد النوم في تلك الخربة المسماة T2، فالترقّب والحذر دائمان. المكان
مفتوحٌ على الجهات الأربعة، والخطر يحيط بنا كالدائرة. كنّا ننتظر قدومهم كلّ ساعة.
والكثبان الرمليّة والتلال المتحرّكة جعلت المكان غير منبسطٍ وفيه صعودٌ ونزول. هذه
الجغرافيا جعلت سيّاراتهم ذات الدفع الرباعيّ تتنقل بحرّيّةٍ بعيداً عن أجهزة
المراقبة التي نصبناها.
وفي ليلةٍ باردةٍ، اجتمعت فيها كلّ عناصر الطبيعة ضدّنا، هبّت عاصفةٌ رمليةٌ غير
مسبوقةٍ، حجبتِ الرؤية تماماً، والهواء المحمّل بحبّات الرمل صار يصفع كلّ ما بدا
من وجوهنا، فيفعل فيها فعل السيل بالصخر. وما نفذ منها من خلال فتحات القماش التي
لففنا بها وجوهنا، أصاب أعيننا إصاباتٍ مباشرةً جعلتنا نشيح بأنظارنا إلى الجهة
المعاكسة. أمّا عويل الرياح فصمّ آذاننا عن صوت الآليّات القادمة من بعيد.
باختصار.. كان الموت قادماً من جهة الشرق ونحن مشغولون بأنفسنا.
* انهيار خطّ الدفاع الأوّل
ركب التكفيريّون موجة العاصفة، وجاؤوا مع اتّجاهها بحرفيّة عالية وخبرة ابن الأرض.
وفي ساعةٍ نحسةٍ دوّى انفجار المفخّخة وانهار معها خطّ الدفاع الأوّل، وارتفع معها
الشهيد الأوّل من مجموعتنا. وطريقة المفخخات تلك، لمن لا يعرفها، تكون بتفجير كميّة
هائلة من المتفجّرات تقتل كلّ من في الجوار وتصيب من كان ضِمن دائرةٍ واسعةٍ بالصمم
واختلال التوازن، فيصير كمن خرج عن وعيه وفَقَد رشده.
فقدتُ مثل رفاقي السمع لدقائق، وشعرتُ كأنّي انتقلت إلى عالمٍ آخر كلّ من فيه وما
فيه صامتٌ بطيءٌ، وكأنّني في فيلمٍ قديمٍ بلا صوت، وظننت للحظات أنّي ميّتٌ وما
أراه هو اللحظات الأولى من عالم البرزخ الموعود. ولمّا رأيت بقيّة رفاقي يركضون في
غير اتّجاه، تيقّنت أنني قد متّ وما أشاهده هو تجسيد الآية الكريمة:
﴿لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ (عبس: 37).
* هل من ناصر؟
لكنّ صوت تكبيراتهم، وقد استعدتُ بعض سمعي، عند سواتر الموقع، وبعض رصاصاتٍ أطلقوها
تجاهنا، جعلتني أستعيد توازني وأعيش حقيقة ما يحصل: الدواعش في الموقع، الدواعش
صاروا بيننا.
لم أكن قد تزلزلتُ هكذا من قبل، وإن خضتُ الكثير من المواجهات، إلّا أنّ هذه
التجربة بدتْ لي غير مسبوقةٍ. وصوت تكبيراتهم وصُورٌ لوحشيّتهم حفظتها في ذاكرتي
معظمها وهم يقطعون الرؤوس ويحرقون الأسرى، كلّ هذا أصابني في الصميم...
الفرار، أوّل ما خطر في بالي، عليّ بالفرار. ظننته الحلّ الصحيح؛ فالقوم صاروا هنا
ولا طاقة لنا بقتالهم. حمَلت بندقيّتي وأدرتُ ظهري للعدوّ وهممت بالركض، لولا أنّ
هاتفًا خاطبني. جاء صوته من بعيد في تلك الصحراء المفتوحة على كلّ هذا الرعب: "هل
من ناصرٍ؟ لا نبالي أوَقعنا على الموت أم وقع الموت علينا! وإذا محّصوا بالبلاء قلّ
الديّانون..".
* كربلاء تناديني
كانت كربلاء كلّها تناديني. للحظةٍ حضرَت بكلّ عناصرها. وكان الإمام الحسين عليه
السلام ينتصب أمامي كالطود، يفتح ذراعيه ويشير صوب الساتر الترابيّ.
استقبلتُ الجبهة من جديد، وبلحظةٍ كنت وجهاً لوجهٍ مع عدوٍّ سمعته يكبّر الله.. لا
واللهِ لا ينفع تكبيرك ولا صلاتك، كما لم ينفعا رافعي المصاحف قبلك في صفّين،
وباقري بطون الحوامل في النهروان. بلى والله، هي كلمةُ حقٍّ يراد بها باطلٌ. وما
شمس أهل البيت إلا مصباحٌ ينير درب من أراد الهداية، في عالمٍ ملأته الفتنة، وصار
كلّ من فيه يدّعي تمثيل شرع الإله على الأرض.
رحت أكبّر بأعلى صوتي وأصيح: "السلام عليكَ يا أبا عبد الله.. السلام عليكَ يا أمير
المؤمنين"، فرأيت كلّ رفاقي الباقين يثبتون في أماكنهم، وقد اتّخذوا مواقعهم
الدفاعيّة.
* أوَفيتُ يا بن الطيّبين؟!
واجهناهم ساعةً من الزمن، حتّى انهزموا أمامنا. كانت صيحاتنا تملأ فضاء ساحة الموت
تلك، ذوْداً عن أهلنا الآمنين في قراهم وبلداتهم. لن يمرّوا.. وفينا قطرة دم.. لن
يمرّوا إلّا فوق جثثنا. اخترنا أن نموت دفاعاً عن الجميع.. لكنّ الله كتب لنا
الحياة.
وقفتُ فوق الساتر أطارد فلولهم، وما شعرت إلّا بروحي تخرج من حلقي، وهويتُ إلى
الأرض. كانت طلقةٌ من طلقات الفارّين قد استقرّت في رقبتي. وفي حضن رفيقٍ لي، كانت
آخر كلماتي: "سلام عليك يا حسين.. أوَفيتُ يا بن الطيّبين؟!".
يضحك محمّد اليوم عندما يسمع أنّ أميركا تهدد بـ"التوماهوك". يتحسّس مكان جرحه في
رقبته ويقول: "لن يمرّوا..".
1- اسم مستعار.