نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

الشهيدة آمنة الصدر جهاد وشهادة

الحاجة عفاف الحكيم



معرفتي بالشهيدة السعيدة آمنة الصدر تعود إلى ذلك اليوم الذي زار فيه منزلنا أحد علمائنا الأجلاء، وكان قادماً من النجف الأشرف. يومها تناولت من يده الكريمة وباعتزاز لِمَا خصَّني به في ذاك الزمن المبكّر ما لم يكن كتاباً، وإنما كان عدداً من -مجلة الأضواء- التي تصدر هناك.. كنت مأخوذة فرحة بأخبار وأجواء النجف ولذا سريعاً رحت أقلّب الأوراق متصفِّحة العناوين وأسماء الكتّاب وإذ بنظري يقع على صفحة تصدَّرتها كلمات: بقلم بنت الهدى. عبارة صغيرة، لكنَّها يومذاك كانت بالنسبة لي مدوّية.. وعليه فإنَّ السؤال بات ما ينفك يسبقني مع لقاء أيٍّ من القادمين والقادمات من تلك الديار.. أريد أن أعرف أكثر عن صاحبة هذه الشخصية النسائيَّة الإسلاميَة الفذّة التي اقتحمت بقلمها وحضورها المتميِّز أجواء النجف وساحة الفعل والعمل والحركة والنشاط.. كاسرةً ذاك الطوق التاريخيّ الذي استحكم وطال...

* زيارة السيِّدة الصدر
ومع توفّر الفرصة.. صمَّمنا عائلياً على زيارة المراقد المقدَّسة رغم الحذر الشديد حينها لجهة حالة الغليان التي كانت تسود العراق.. وعليه فإنَّ زيارة منزل المرجع الديني الكبير السيِّد محمد باقر الصدر كانت ميسَّرة رغم أنَّ رجال المخابرات الشرسين كانوا يُتابعون الزائرين بشكل وقح منذ دخولهم الزقاق المؤدِّي إلى تلك الدار. حين وصلنا لزيارتها كانت السيّدة الصدر في الكاظميَّة لمتابعة الوضع الصحيِّ لوالدتها.. لذا قرَّرنا في اليوم التالي الذهاب إلى حيث هي. فاستقبلتنا بحرارةٍ وحفاوةٍ بالغة.. وبعد السؤال عن أوضاع لبنان الذي زارته وأحبَّته، وأوضاع مجتمعنا النسائيِّ الذي شاهدت تأثّره الكبير بموجة التغريب، انتقلنا إلى الأجواء الثقافيَّة والتفاعل الكبير الذي أحرزته كتب: فلسفتنا واقتصادنا والمدرسة الإسلاميَّة بين عناصر الشباب وطلاب الجامعات..

* تتحدَّث عن مراحل حياتها
لم ننفكّ نحن عن السؤال.. ولم تتعب هي من الإجابة.. فمضى الحديث الذي جرى قبل استشهادها بعامٍ هادئاً متشعِّباً مثقلاً بألوان جاذبة من الودِّ والثقة، وحيث عرجنا خلاله على مراحل حياتها وسنيّها الأولى وكيف بدأت بتلقِّي مبادئ القراءة والكتابة داخل البيت باكراً. لم تذهب السيدة الصدر إلى المدرسة الرسمية أو الكتّاب وإنَّما فقط كانت تنهل برفق وتمهّل وبخطوات محسوبة بين يدي أخويها -السيِّد محمد باقر والسيِّد إسماعيل- مركِّزة على الرعاية الفائقة والاهتمام البالغ من جانبهما بعملية تعليمها.. إذ كانا مع الدأب على مبادئ القراءة والكتابة يغدقان عليها الكثير من العطف ويحيطانها بألوان من الاهتمام، فمن جهة يحملان لها الدفاتر والأقلام الملونة، ومن جهة ثانية يأتيانها بالهدايا والحلوى، أو يبادرانها بالحوار والسؤال، إضافة إلى الحثِّ على المثابرة والمكافأة على الجد والتحصيل.. مبيِّنة أهميَّة ما حظيت به من جانب السيِّد محمد باقر تحديداً والذي كان له دور فعَّال في حياتها خصوصاً بعد انتقال العائلة من الكاظميَّة إلى النجف الأشرف.. ومن سنة إلى سنة راحت الطالبة المجدّة تتقدَّم سريعاً باتجاه علوم الحساب والنحو وعلوم القرآن والفقه والأصول وباقي المعارف الإسلاميَّة حيث درست بشغف ودأب، إذ كانت كما هو ملحوظ في شخصيَّتها، تتمتَّع بذكاءٍ متوقِّد وسرعة حافظة وقابليَّة وولع كبير بالمطالعة بحيث لم تقتصر - كما قالت - على الكتب الإسلاميَّة وإنَّما تناولت كتباً مختلفة علميَّة وفلسفيَّة وقصصيَّة بل كانت تقرأ كل ما كان يصل إلى يدها..

* دور فاعل ومؤثر في المجتمع
المهم أنَّه مع نضوج شخصيَّة المجاهدة الشابة علمياً ودينيَّاً نهضت وبدعم وتشجيع مباشر من الأخ المجاهد -كما روت- عاملة على ممارسة التأثير الاجتماعيِّ من خلال التوعية والتثقيف للعناصر النسائية، فكان أن لعبت على صعيد التبليغ دوراً فعَّالاً كان له تأثيره الكبير في هداية الفتيات ورجوعهنَّ إلى التمسّك بتعاليم الدين الحنيف، بحيث بدأت تعقد جلسات دورية في بيتها أو في بيوت بعض الأخوات الواعيات ممَّن التففن حولها استطاعت بهذا أن تربِّي وتوجِّه عدداً كبيراً من تلكم النساء بالإضافة إلى دورها كمشرفةٍ تربويَّةٍ على مدارس الزهراء للبنات في الكاظميّة ومركز التعليم الدينيّ للبنات في النجف الأشرف.. فكانت تأتي ثلاثة أيام في الأسبوع إلى الكاظمية فيما تقضي الأيام الأخرى في النجف، عاملة بكل ما أوتيت من قوة، من خلال تدرج العديد من الطالبات والمعلمات بين يديها، على مواجهة الثقافات المادية التي كانت تنخر جسد الأمَّة.

* الشهيد الصدر يرعاها ككاتبة
أمَّا في المرحلة التالية فقد روت السيِّدة الصدر أنَّ شقيقها العلامة المجاهد فاجأها ذات يوم بطلب كتابة مقالةٍ لمجلَّة الأضواء التي تقرَّر أن يصدر العدد الأوّل منها، فدهشت كونها لم تكن مستعدَّة بعد.. لكن مع إصرار السيِّد كانت الإجابة وتمّ التحضير.. غير أنَّ المقالة أعيدت بعد أن جوبهت باعتراض شديد من أعضاء الهيئة العلميَّة المشرفة على المجلة.. وحيث جاء الاعتراض على أصل نشر مقالة لفتاة من على ذاك المنبر المتمِّيز بنتاجات جمع من أقلام العلماء.. لا سيما وأنَّ المقالة تحمل الاسم الكامل والصريح لعائلة عريقة... وكان أن بقي السيد الشهيد لعدَّة أسابيع يعاني من الموقف المتشدّد لبعض الناس.. لكنَّه بقي مصراً على ضرورة إفساح المجال للكلمة النسائية إلى أن ربح الجولة.. لكن بعد أن اختار – كما قالت - اسم "بنت الهدى" بدل آمنة الصدر كحلٍّ وسطي... وهكذا بدأت بتوظيف قدراتها الأدبيَّة في سبيل غرس القِيَم والمبادئ، حاملة الكلمة الحرّة المعبِّرة إلى كلِّ فتاة مسلمة.. لذا لم تقتصر في عملها على ما تقدم.. وإنَّما تعدَّته إلى مجالٍ أوسع وهو كتابة القصة الإسلاميَّة الهادفة والتي تستطيع من خلالها أن توصل صوتها إلى الجيل الناشئ وإلى أكبر عدد من النساء بأسلوب مبسَّط محبب جاعلة من القصة والحوار والبحث الفكري أسلوباً من أساليب الدعوة إلى الله...

* ساحة التحدي والجهاد
أمَّا في المرحلة الأخيرة - فيما علمناه - من حياة المجاهدة الكبيرة التي لم تكتف بكلِّ ما سبق.. فقد أكملت الشوط باتِّجاه الساحة الجهاديَّة، ساحة التحدِّي ومقارعة الطغاة، ذلك أنَّها واكبت باكراً تفاصيل الظروف السياسيَّة والأمنيَّة السائدة وعاشتها عن قرب فكانت مهيأة وحاضرة لأيِّ موقفٍ أو مواجهة.. لذا مع اقتحام الأمن للدَّار الكريمة وتعرّض أخيها آية الله السيِّد محمد باقر للاعتقال، خرجت وتحدَّثت في الجموع مندِّدةً بجلاوزة السلطة وما يفعلونه صارخة ومرحِّبةً بالموت إذا كان في سبيل الله.. وبعد لحظات نظَّمت تظاهرةً حاشدةً انطلقت من الحرم المطهر، ساهمت فيها النساء مع الرجال وأدَّت إلى أجبار السلطة بعد ساعات قليلة على الإفراج عن السيِّد الشهيد..

* ومضت تحلّق مع الشهادة
ومع تفاقم الأحداث في تلك الأيَّام العصيبة التي كانت تلف العراق.. عادت السلطة إلى اعتقال السيِّد الصدر وذلك في 5 نيسان1980م. وكان أن نهضت المجاهدة مع إحساسها بخطورة المرحلة ومضت إلى مرقد جدِّها أمير المؤمنين عليه السلام وهناك نادت في الجموع بأعلى صوتها الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر.. الظليمة الظليمة أيَّها الناس لقد اعتقل مرجعكم.. وكان أن انتفضت النجف في ذاك اليوم ما أرعب النِّظام.. ثمَّ كان أن اعتقلت صاحبة الموقف البطوليِّ بعد يوم واحد من اعتقال أخيها ونُقِلَت فوراً إلى بغداد تحت حراسة مشدَّدة وبعد ثلاثة أيَّام تم تنفيذ حكم الإعدام بالشهيد الصدر، وبالبطلة المجاهدة آمنة الصدر.. المهم أنَّ تضحيات وجهود شهيدتنا الكبيرة أثمرت بفضل الله تعالى نتاجاً طيباً مباركاً يؤتي أكله اليوم في العراق وفي عدد من بلدان العالم تلميذات ونهجاً. وإنَّه ليكفي المجاهدة والبطلة التي نذرت حياتها كلها لله تعالى أنها قالت كلمتها الجريئة في مواجهة طاغية عصرها، وجاهدت أفضل الجهاد الذي هو (كلمة حقٍ عند سلطان جائر) ثمَّ كان أن قدَّمت روحها الطاهرة إلى بارئها عز وجل ومضت تحلّق مع مراتب الشهادة والفوز العظيم...

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع