مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

الشهيد الصدر: مع الإسلام لأجل الجميع


سماحة الشيخ عفيف النابلسي


ليس من باب الالتزام العاطفيّ والوشيجة الشعوريّة, أنْ أقول عن أستاذنا الشهيد السيّد محمّد باقر الصّدر إنّه كان يمثّل عقل الإسلام وترجمانه في زمانه القصير الذي عاش. ولكنْ ما قادني إلى هذا الموقف هو تأمّلي الدؤوب في آثاره العلميّة المكينة الجذور, وفي سيرته الشخصيَّة وحياته السياسيّة والجهاديّة التي واكبتُ شطراً منها معايناً مشاعره الإنسانيَّة الفيَّاضة, وروحانيّته السامية, وكمالاته وملكاته المتعدِّدة الأبعاد, وهمومه وتباريحه التي أحاطت بواقع الإسلام والمسلمين آخذةً بتلابيب فكره وسويداء قلبه. ولو لم تكن الشروط التاريخيّة التي عاشها الشهيد الصّدر هي شروط صراع مع نظام سعى لهدم الكيان الإسلاميّ في العراق(1) لتوفّرنا على أعمال باهرة في مختلف المجالات والموضوعات.

 ولكن يد الإجرام خطفته من بيننا وهو في ذروة تجربته وقمّة عطائه. أوّل ما يُمكن أنْ يُلاحظه الباحث في مسيرة الشهيد العلميّة أنّه خطّ لنفسه مساراً تباين فيه مع أساتذته ومجايليه في الحوزة العلميَّة. ويعود ذلك إلى طبيعة الإطار المعرفيّ الذي تعمّدَ الشّهيد الصّدر أن يشتغل ويساهم فيه, خصوصاً أنّ الزمن الذي عاش فيه كان زمن حركات فلسفيّة واجتماعيّة وثوريّة ناهضة, نشأت في كنفها أفكار جديدة وترتّب على وجودها أحوال جديدة اجتاحت وهيمنت على واقع الأمَّة الإسلاميّة كلّها. من داخل الحوزة وبيئتها وترابها لا من خارجها, بدأ يؤصّل موضوعات العلم ويجذّر مسائل الفقه ويهذّب المطالب, ويحوّل ذلك إلى عمل منظّم في التعبير العلميّ الممنهَج حتَّى يَجري منسجماً مع مقتضيات ومتطلَّبات الحياة المعاصرة التي تحفل بالتعقيد والتساؤلات الكثيرة. فإذا بنا أمام توسّع مذهل في عمليَّة التفكير والاجتهاد طالت منظومات الفقه والأصول والفلسفة وغيرها من العلوم, ثمَّ اتّجهت العمليَّة للبحث في مستويات المعالجة وأساليب تَناولِ المسائل ما أحدث تحوّلاً كبيراً وعميقاً في واقع الحوزة ككلّ. وفي جهد متوازٍ وظّف الشهيد الصدر نباهته وعبقريته لا للردّ على الأطروحات الغربيَّة الماديَّة فحسب, بل لتظهير ميراث الإسلام العظيم في ميادين الفلسفة والاقتصاد والاجتماع والسياسة في أعرض المعاني وأقوى المباني وأدقّها, ما جعل حضوره الفكريَّ يتجاوز حدود الحوزة التي أنقذها من عوامل الوهن والجمود وأثبت قدرتها على الردِّ والإبداع والمبادرة وصياغة المفاهيم وطرح البدائل الإسلاميَّة.

* في مواجهة النِّظام البعثيّ
بإزاء هذا البذل المعرفيّ, سعى الشهيد الصدر لإحداث حركة وعي ونهوض داخل الحوزة وفي صفوف المسلمين الشيعة حيث كان يتطلّع لدور أكبر تلعبه الحوزة التي كان يعتقد بعضهم داخلها أنّه يمكن تفادي أخطار النِّظام البعثيّ بالأخلاقيَّة الشكليَّة وإدارة العجز، ولكنّه كان يُصرّ على المواجهة المفتوحة ولو أدّى ذلك إلى تضحيات جسيمة, فأفتى بحرمة الانتماء إلى حزب البعث من دون أن يخاف من السلطة التي تحدَّاها بموقفه الرافض لحزبها وعقائدها(2).
فقد كان مُدركاً لأبعاد ومتغيّرات الواقع الاجتماعيّ والسياسيّ داخل العراق بعد تسلّط صدام حسين على الحكم, ولم يكن شخصٌ في تلك المناخات المعقّدة والظروف التاريخيّة الضاغطة أقدر منه على معاينة حالة التردّي التي بات الشعب العراقي يرزح تحتها, ولم يكن أقدر منه على تشخيص الموقف وتحديده وفهم المعطيات السياسية الميدانية, لذلك لم يكن ليحاذر في فتواه لأنّ المسألة لا تتعلّق ببراءة ذمّة مكلّف مكرهٍ للانتماء إلى حزب البعث أمام الله, وإنَّما للآثار الخطيرة التي ستنتج على صعيد الواقع(3) نفسيَّاً واجتماعيَّاً واقتصاديَّاً ودينياً والتي ستجعل الشعب العراقيَّ بأسره يعيش أجواء كابوسيَّة وتحت هاجس الخوف الدائم.

* إثارة الخلفية المذهبية
لذلك كان يسعى لئلاّ يتحوّل الانتساب إلى البعث أمراً طبيعياً لا حرج فيه, لا يرى فيه العراقيون أيّ ضير أو منكر، بل أراده أن يرتطم بشتّى أنواع المنع والتحريم حتّى لا تتَّخذه السلطة معبراً لتهديم الدين والقِيَم, وللسيطرة على المجتمع وفرض فكرها عليه بالحديد والنار(4). في هذا المسار المحتدم دخلت المواجهة السياسيَّة بين الشهيد والنِّظام البعثيّ في مرحلة جديدة إذ عمد النِّظام إلى القول إنّ حركة الاعتراض التي يقوم بها السيد محمد باقر الصدر إنَّما تتأسّس على خلفيَّة مذهبيَّة. وبدا واضحاً أنّ النِّظام تقصّد اختيار هذا الطريق الأكثر خبثاً لتبرئة ساحته من الجرائم التي يرتكبها ولتحصين سلطته ونفوذه ولإفشال أيِّ مخطّط يعدّه الصدر على الصعيد الشعبيّ. ردّ الشهيد بأنّ المحنة الناتجة من هذا النِّظام هي محنة كلّ الشعب العراقي, وأنّ الموقف الجهاديّ والردّ البطوليّ والتلاحم النضاليّ على ممارسات النظام الوحشيَّة والبشعة يجب أن يكون واقع الشعب العراقيّ كله(5).

* الشهيد الصدر مع الإسلام لأجل الجميع
ولعلّ أكثر الأمور فرادةً وأكثرها دلالةً تلك المتعلّقة بمقاربة الشهيد الصدر للمسألة الطائفيَّة في العراق. ففي أدبيّاته من الوضوح والجرأة والمباشرة ما لا تجده عند غيره من مراجع الشيعة, بل أكاد أجزم أنّ ما وصل إليه في بيانه الثالث الذي وجّهه للشعب العراقيّ أثناء ما عُرف بفترة المحنة, ما وصل إليه مرجع شيعيّ آخر, حيث ارتقى في خطابه إلى أعلى مراتب التجرّد الفكريّ والعاطفيّ، وعبّر عن موقف هو نتاج الإيمان الخالص والعقل المستنير والوجدان النقيّ, قائلاً: "وإنّي منذ عرفت وجودي ومسؤوليَّتي في هذه الأمة بذلت هذا الوجود من أجل الشيعيّ والسنّيّ على السواء، ومن أجل العربيّ والكرديّ على السواء، حين دافعت عن الرّسالة التي توحّدهم جميعاً، وعن العقيدة التي تضمُّهم جميعاً, ولم أعشْ بفكري وكياني إلا للإسلام طريقِ الخلاص وهدفِ الجميع. فأنا معك يا أخي وولدي السنّيّ بقدر ما أنا معك يا أخي وولدي الشيعيّ, أنا معكما بقدر ما أنتما مع الإسلام وبقدر ما تحملان من هذا المشعل العظيم لإنقاذ العراق من كابوس التسلّط والذلّ والاضطهاد. إنّ الطاغوت وأولياءَه يحاولون أنْ يوحوا إلى أبنائنا البررة من السنّة أنّ المسألة مسألة شيعة وسُنّة... وأريد أنْ أقولها لكم يا أبناء عليّ والحسين وأبناء أبي بكر وعمر إنّ المعركة ليست بين الشّيعة والحُكم السنّيّ. إن الحُكم السنّيّ الذي مثّله الخلفاء الراشدون والذي كان يقوم على أساس الإسلام والعدل حمل عليٌّ السيف للدفاع عنه. إنّ الحكم الواقع اليوم ليس حكماً سنياً وإن كانت الفئة المتسلّطة تنتسب تاريخياً إلى التسنّن... فهم ينتهكون حرمة الإسلام وحرمة عليّ وعمر معاً في كلّ يوم وفي كلّ خطوة من خطواتهم الإجرامية"(6). إنّ هذا النص الذي لا يسع المقام لنقله بتمامه والصادر عن شخص يُقرّ جميع العلماء دون استثناء بعبقريَّته وفقاهته وإخلاصه لمذهبه, يضعنا أمام تجلّيات جديدة متصاعدة في فهم وتفسير الأحداث التاريخيَّة وسلوك شخصيَّاتها الأساسية, ويشركنا في وعيها بغية النظر إلى الحاضر بأفق أوسع ممَّا نحن فيه. وبالتالي فإنّه يؤسّس لمعايير قيمية جسورة في مقاربة الخطاب المذهبيِّ والطائفي ويتناول دور الفرد والجماعة في عملية حفظ الإسلام من الفئات الظالمة والمتسلّطة.

* الشهيد الصدر والشعب العراقيّ
إنّ هذا الجانب الذي ذكرناه يضيء على مفصل من مفاصل حياة الشهيد الصدر في الميدان السياسيّ داخل العراق. ولكنه يُومي بنظرنا إلى شيئين هامّين ما زالت نتائجهما السلبية ممتدّة حتّى الآن، الأول: عدم مواكبة الشعب العراقيّ للشهيد الصدر في طروحاته وتطلُّعاته وما نبَّه له من العواقب الوخيمة إن استمرَّ النِّظام في حكمه. والثاني: الاضطراب الكبير في الواقع الحزبي الشيعيّ الذي بذل الشهيد الصدر جهداً لبنائه وترشيده كي يكون قادراً على الاضطلاع بدور فاعل على كلّ الساحة السياسية العراقية وفي التعامل مع قضايا الأمة بهمومها وضغوطها وتساؤلاتها العميقة. وعلى ما يبدو فإنّ عجز الشعب والنخَب عن الالتفاف حول قيادة الشهيد الصدر, وتمزّق التجربة الحزبيَّة الشيعيَّة التي كان من الممكن أن تكون أكثر تماسكاً واكتمالاً, هو الذي فوّت على العراقيّين والأمة بناء عراق حرّ كريم تغمره عدالة الإسلام وتسوده كرامة الإنسان. وما نشاهده في عراق اليوم من احتلال وتمزّق واحتراب, إنما يستمدّ وقوده من تلك الأيام الخاليات, ومن السقوط في تجربة الوحدة الوطنية, ومن حالة التردّد والتحفّظ إزاء مبادرات التغيير والإصلاح, ومن بناء دولة وثيقة الصلة بغائية التواريث الوطنية والإسلامية التي وضع أسسها المفكر الكبير محمد باقر الصدر.


 1- ج2, ص:59 النعماني, محمد رضا, شهيد الأمة وشاهدها.
2- المصدر نفسه, ص 61.
3- المصدر نفسه, ص60.
4- المصدر نفسه, ص60.
5- المصدر نفسه, ص 188.
6- المصدر نفسه, ص 188- 189.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع