الشيخ محسن قراءتي
إنّ تَكرار الصفات الإلهيّة في دعاء العهد وخصوصاً بعد كلمة "وأسألك" يُظهر أنّ
ذِكر هذه الأسماء هو مناسب لحاجة الداعي، كما لا يخلو تَكرارها من اللّطف الإلهيّ.
وفي العدد السابق بدأنا في شرح هذه الأسماء، وفي الآتي تتمّة ذلك: "...أَسْأَلُكَ
(...) بِاسْمِكَ الَّذِي يَصْلَحُ بِهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ، يَا حَيّاً
قَبْلَ كُلِّ حَيٍّ، وَيَا حَيّاً بَعْدَ كُلِّ حَيٍّ، وَيَا حَيّاً حِينَ لا
حَيَّ، يَا مُحْيِيَ الْمَوْتَى وَمُمِيتَ الْأَحْيَاءِ، يَا حَيُّ لا إِلَهَ
إِلَّا أَنْتَ...".
* وَبِاسْمِكَ الَّذِي يَصْلَحُ بِهِ الْأَوَّلُونَ
وَالْآخِرُونَ
السؤال والطلب من الله تعالى بهذه الكلمات موجود أيضاً في أدعية أخرى. يقول الإمام
الحسين عليه السلام: "فأسألك بنور وجهك الذي أشرقت له الأرض والسماوات، وانكشفت به
الظلمات، وصلَح عليه أمر الأولين والآخرين..."(1). لا يبعد أن يكون الاسم الذي
يصلُح به الأوّلون والآخرون، هو مقام الإنسان الكامل والخليفة الإلهي؛ لأنّ الله
تعالى جعل الحُجّة والإمام قبل الخَلق ومع الخلَق وبعد الخَلق، ولا تخلو الأرض منه
في زمانٍ أبداً.
الآن الوجود المقدّس الحاضر في حياة كلّ فرد والحافظ له عن الفساد والموصل له إلى
الصلاح هو الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف. وبعبارة أخرى: إنّ المهدويّة
هي سبب ورُشد ارتقاء وتربية الفرد والمجتمع. اليوم، الحياة ليس لها أيّ طريق للنجاة
والإصلاح إلّا بالأمل به وذكر اسمه. وكلّ فرد بمقدار ما يصبغ حياته بلون المهدويّة،
فإنّه بذلك المقدار يكون نصيب انتفاعه واستفادته.
* دور حجّة الله في الحياة
المنتظِر، في هذه الفقرة، يترنّم بهذه المسألة الدقيقة، وهي أنّ حياته لا بدّ من أن
تكون مورد رضى وليّ العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف؛ لأنّ دور حجّة الله في
الحياة أنّه ينجي الإنسان من الفساد ويوصله إلى الصلاح والفلاح. جاء في زيارة
الجامعة الكبيرة: "بموالاتكم... أصلح ما كان فسد من دنيانا". حقيقةً، فإنّ كلّ فرد
يوفَّق في حياته، ويصل إلى الرشد والصلاح، إنّما يوفّق ويصل إلى تلك النعمة والقيمة
العظيمة بوساطة حجّة زمانه.
* يَا حَيّاً قَبْلَ كُلِّ حَيٍّ، وَيَا حَيّاً بَعْدَ
كُلِّ حَيٍّ، وَيَا حَيّاً حِينَ لا حَيَّ
ثمّة تأكيد خاص على الحياة الإلهيّة المتعالية في الأدعية، وقد جاءت هذه المسألة في
المقطع السبعين من دعاء الجوشن الكبير على الشكل الآتي:
"يا حيّاً قبل كل حيّ، ويا حيّاً بعد كل حيّ، يا حيّ الذي ليس كمثله حيّ، يا حيّ
الذي لا يشاركه حيّ، يا حيّ الذي لا يحتاج إلى حيّ، يا حيّ الذي يميت كل حيّ، يا
حيّ الذي يرزق كل حيّ، يا حيّاً لم يرث الحياة من حيّ، يا حيّ الذي يحيي الموتى، يا
حيّ يا قيّوم لا تأخذه سنة ولا نوم"(2).
أمّا لماذا تكرّر هذا الاسم في دعاء العهد أربع مرّات، ثمّ أُشيرَ بعده إلى مسألة
الإحياء والإماتة، فهل من الممكن أن يكون ذلك مرتبطاً ببحث "الرّجعة" الوارد في هذا
الدعاء العظيم؟ يبدو أنّ هذه المسألة لا تخلو من ارتباط بذلك.
* يَا مُحْيِيَ الْمَوْتَى
مَن يحيي مرّة يمكنه أن يحيي مرات أخرى:
﴿يُحْيِي الْمَوْتَى﴾ (الحج: 6). جاء في سورة النجم (الآية: 44) قوله تعالى:
﴿وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا﴾.
نعم، من كان لديه حكم كامل على جميع الوجود، فله القدرة -أيضاً- على الإحياء
والإماتة:
﴿لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ
لا إِلَهَ إِلّاَ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ (الأعراف: 158).
في النتيجة:
عالم الوجود مظهر تجلّي قدرة الله تعالى في إيجاد ظواهر الحياة والموت:
﴿يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ
يُعِيدُهُ﴾ (العنكبوت: 19).
الخلق والإماتة وإعادة الإحياء هي أفعال دائمة له تعالى:
﴿يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ
يُعِيدُهُ﴾.
الخلق الأول وإعادة الإحياء يوم القيامة لا يحتاجان إلّا إلى إرادته سبحانه:
﴿إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ (العنكبوت: 19).
* ومميت الأحياء
نقرأ في القرآن الكريم أنّ الموت والحياة هما تجلّيان للربوبيّة الإلهيّة:
﴿وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى﴾ (النجم: 42)،
﴿وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا﴾ (النجم: 44)، وجاء في سورة يونس (الآية 56):
﴿هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ﴾.
أشار النبي إبراهيم عليه السلام في مجال التعريف والاستدلال على وجود الله تعالى
إلى هذه المسألة:
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ
إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ
رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ (البقرة: 258). ونقرأ في سورة الروم (الآية: 40) قوله
تعالى:
﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ
رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن
يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾.
في هذه الآية أشير إلى أربع صفات إلهية، بحيث إنّ كل واحدة منها كافية لتسليم
الإنسان وتعبّده، فخلق الإنسان دليل مستقلّ على لزوم العبودية على الإنسان:
﴿اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي
خَلَقَكُمْ﴾ (البقرة: 21)، والرزق الإلهي دليل على لزوم
العبودية:
﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ *
الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ﴾ (قريش: 3-4)، والإماتة والإحياء أيضاً كلّ واحدة منهما
دليل على لزوم تعبّد وتسليم الإنسان لربّه تبارك وتعالى:
﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ
رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ (الروم: 40).
* يَا حَيُّ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ
في هذه الفقرة ذُكرت وحدانيّته تعالى، وسنبيّن بشيء من التوضيح بعض الأمور
المتعلّقة بها:
جاء في القرآن الكريم شعار التوحيد مكرّراً وببيانات مختلفة، مثل:
﴿لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾ (الصافات: 35)،
﴿لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ﴾ (البقرة: 163)،
﴿لا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ﴾ (الأنبياء: 87)،
﴿لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا﴾ (النحل: 2).
"لا إله إلّا الله"، هي أول صفحة في هُوية أيّ مسلم، وأول شعار وأول دعوة لنبي
الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم كانت بهذه الجملة: "قولوا لا إله إلا الله
تفلحوا"(3)، وعنه صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً: "من قال لا إله إلّا الله
مخلصاً دخل الجنة، وإخلاصه بها أن تحجزه لا إله إلّا الله عمّا حرّم الله"(4).
وعن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "قول لا إله إلّا الله ثمن الجنة"(5)،
كذلك نقل هذا الحديث القدسيّ عن الإمام الرضا عليه السلام: "كلمة لا إله إلا الله
حصني"(6).
نعم، التوحيد أساس نجاة وخلاص الإنسان. يقول العارف الواصل المرحوم الحاج الميرزا
جواد الملكي التبريزي: "كان لي شيخ جليل عامل عارف كامل قدس سره (لعله المرحوم
الآخوند ملّا حسين قلي الهمداني)، ما رأيتُ له نظيراً..، سألته عن عمل مجرّب يؤثّر
في إصلاح القلب وجلْب المعارف، فقال قدس سره العزيز: ما رأيتُ عملاً مؤثراً في ذلك
مثل المداومة على سجدة طويلة في كل يوم مرة واحدة، يقال فيها:
﴿لا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ
إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ (الأنبياء: 87)، يقوله وهو يرى نفسه مسجونة في سجن
الطبيعة، ومقيّدة بقيود الأخلاق الرذيلة، مقرّاً بقوله: إنّك لم تفعل ذلك بي
وتظلمني، وأنا الذي ظلمت نفسي وأوقعتها في هذه الحال(7)...
وعن أمير المؤمنين عليه السلام أيضاً في دعاء كميل: "لا إله إلّا أنت سبحانك
وبحمدك، ظلمتُ نفسي وتجرّأتُ بجهلي".
إنّ الإقرار والاعتراف بالوحدانيّة موجود في مواضع كثيرة من الأدعية، ويمكن القول
تقريباً: إنّ أحد آداب الدعاء هو هذه المسألة.
1. إقبال الأعمال، ابن طاووس، ج2 ص79.
2.البلد الأمين، الكفعمي، ص 408.
3.كنز العمال، المتقي الهندي، حديث رقم 35541.
4.ثواب الأعمال، الصدوق، ص 20.
5.بحار الأنوار، المجلسي، ج 93 ص 196.
6.(م.ن)، ج3 ص7.
7.أسرار الصلاة، الميرزا التبريزي، ص 359.