الشيخ محسن قراءتي
في بداية دعاء العهد هناك ستة عشر وصفاً من الأوصاف
الإلهية: اللّهمّ رَبَّ النُّورِ الْعَظِيمِ، وَرَبَّ الْكُرْسِيِّ الرَّفِيعِ،
وَرَبَّ الْبَحْرِ الْمَسْجُورِ، وَمُنْزِلَ التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ
وَالزَّبُورِ، وَرَبَّ الظِّلِّ وَالْحَرُورِ، وَمُنْزِلَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ،
وَرَبَّ الْمَلاِئكَةِ الْمُقَرَّبِينَ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ... إلخ.
في هذا المقطع ذُكر تعالى مع سبع صفاتٍ خاصّة، تُعدّ تجلّياً خاصّاً لمعرفته تعالى،
نذكر منها في هذا العدد أربعاً:
1- اللَّهُمَّ رَبَّ النُّورِ الْعَظِيمِ
عادةً، عندما يُراد البدء ببناءٍ ما، تُدعى إحدى الشخصيّات لوضع حجر الأساس. ونحن
إذا أردنا أن نفتتح عملاً لنا باسم أحد ما، فلا يوجد أفضل من اسم "الله" تعالى،
وأسمائه الحسنى.
قال تعالى: ﴿وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى﴾
(الأعراف: 10). وقد تكرّرت هذه الآية ثلاث مرات. فإنّ أفضل الأسماء الحسنى
هو اسم "الله" الجامع لجميع صفات الكمال، مثل حليب الأم الذي نجد فيه جميع أنواع
الفيتامينات التي يحتاج إليها الطفل الرضيع، حيث نجد فيه السكر والدهن والماء
والفسفور، وهو عبارة عن غذاء كامل. فإنّ اسم "الله" هو أكمل الأسماء، أي إنّ كلّ
المعاني والكمالات موجودة فيه.
* الربّ: المالك والمدبّر
بعد اسم "الله" ورد في الدعاء اسم الربّ، وهي كلمة تعني: المالك والمدبّر. يعني أنّ
الله تعالى هو المالك والمدبّر. وتكرار هذا الوصف يدلّ على أهميّة هذه الكلمة. وفي
القرآن الكريم ذُكر كثيراً، حيث بلغ حوالي تسعين مرة. أكثر كلمة وردت في القرآن
الكريم هي كلمة "الله" ثم كلمة "رَبّ".
هذا النوع من التكرار لا يتنافى مع البلاغة، لاختلاف موارده. فالتكرار قد يكون
ضرورياً للتذكير، أو للتفصيل والتنويع، ويتناسب ذلك مع التربية والتوجيه.
* تكرار "يا ربّ"
لا يخلو تكرار كلمة "رَبّ" من الحكمة، خصوصاً في الفقرات الخمس التي ورد فيها هذا
الاسم الإلهيّ؛ لأنّ ذكر كلمة "ربّ" وتكرارها في الدعاء يجعلان طلب الحاجة مقروناً
بالإجابة.
وتكرار كلمة "رَبّ" في بداية أدعية إبراهيم عليه السلام أيضاً مهمّ ولافت، وفيه
دلالة على تأثير ذلك في استجابة الدعاء، أو في كونه أحد آدابه. ففي قوله تعالى:
﴿رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي
رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء * رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ
وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ﴾ (سورة إبراهيم الآيتين 40-41).
في الأدعية إصرار وتكرار ممزوج بكلمة "رَبّ". مثلاً في دعاء الجوشن الذي يحتوي على
مائة فقرة، نقول في نهاية كل مقطع: "خلّصنا من النار يا ربّ".
أمّا تكرار كلمة "رَبّ" في دعاء العهد فلعلّ ذلك لكونه أفضل وأنسب اسم لعقيدة
الرجعة، يعني أنّ الله تعالى المالك والمدبر قادر على الإحياء مرّة أخرى.
2- وَرَبَّ الْكُرْسِيِّ الرَّفِيعِ
الكرسي كناية عن القدرة، السلطة، التدبير، الهداية، والإدارة الكاملة للعالم. وفي
اللغة الفارسية أيضاً يقال لمن جلس على العرش إنّه تسلَّط على الأوضاع، وأمسك
بالقدرة والحكومة. ومن الممكن أيضاً أن يكون العرش كناية عن عالم ما وراء المادة،
والكرسي كناية عن العالم المادي، كما نقرأ في آية الكرسي:
﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ﴾ (البقرة: 255).
يفسّر الإمام الصادق عليه السلام الكرسي بالعلم، فعن حفص بن غياث قال: سألت أبا عبد
الله عليه السلام عن قول الله عزّ وجلّ: ﴿وَسِعَ
كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ﴾، قال: "علمه"(1). كما ورد عن
الإمام الصادق عليه السلام أنّه من العلوم التي لا يعلمها أحد إلّا الله، فعن عبد
الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عزّ وجلّ:
﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ﴾،
قال: "السموات والأرض وما بينهما في الكرسيّ، والعرش هو العلم الذي لا يقدر أحد
قدره"(2).
3- وَرَبَّ الْبَحْرِ الْمَسْجُورِ
جاء في القرآن الكريم الحديث عن البحر المشتعل الذي له غليان وصوت قويّ. نقرأ في
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ﴾ (التكوير: 6). والمقصود بهذه البحار،
إمّا البحار التي تسجّر عند اقتراب يوم القيامة، وإمّا المواد المذابة والمنصهرة في
قعر الأرض كالبحار من النّار، التي تفور أحياناً وتخرج من فوهة البراكين.
الخلاصة، أنّ القرآن النازل، والقرآن الصاعد (الدعاء) يسوقان الإنسان من الأمور
المرئيّة إلى الأمور غير المرئيّة، ويوجّهانه إلى المسائل التي قد يصعب تصديقها
ابتداءً. أما بالنسبة إلى الله تعالى فهذه المسائل هيّنة وممكنة وهو على كلّ شيء
قدير.
4 - وَمُنْزِلَ التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ
الكتب السماويّة النازلة من عند الله تعالى إنّما هي لأجل هداية الإنسان، والمراد
من الصحف الأولى في (سورة طه، الآية: 133)، هو التوراة والإنجيل والزبور. والتصديق
بكون التوراة والإنجيل كتابين سماويَّين ليس معناه إبقاؤهما بشكل دائم، بل معناه
وحدة أهدافهما وانسجام محتواهما جميعها: ﴿مُصَدِّقاً
لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ (البقرة: 97).
إنّ أصول الأديان واحدة ولكن شرائعها متعدّدة. والدين والشريعة طريقان للوصول بنا
إلى الحياة الواقعية والإنسانية، ولكن في كلّ زمان لا يُقبل إلّا شريعة واحدة.
واليوم الدين الوحيد الذي يرتضيه الله تعالى هو الإسلام فقط كما في قوله تعالى:
﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ﴾ (آل
عمران: 19). إنّ قوانين الإسلام الإجرائية ومنهجه التربويّ أيضاً قائمان على
أساس العدل. فهو دين العدل والعدالة. ولو ألقينا نظرة على آيات القرآن الكريم،
لشاهدنا منهجه العادل في جميع الموضوعات، ولرأينا بوضوح الإنصاف والعدالة وعدم
الانحياز في كلّ برامجه. فالقرآن مع كلّ الامتيازات التي يختصّ بها، لا يُغفل أمر
الكتب السماويّة السابقة، ويؤيّد الكتب غير المحرفة من التوراة والإنجيل التي
تقدّمت عليه، وهذا نموذج من الإنصاف.
ويبدو أنّ المراد من الزبور الكتاب الخاصّ بالنبيّ داود عليه السلام الذي يحتوي على
مجموعة من مناجاته وأدعيته ومواعظه، وهي مئة وخمسون فصلاً، كلّ فصل منها عبارة عن
"مزمور". نزل هذا الكتاب بعد التوراة. والمراد بالذكر في قوله:
﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ
أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ (الأنبياء: 105)،
هو التوراة أيضاً. كما ورد في الآية 48 من السورة نفسها التعبير عن التوراة بالذكر:
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ
وَضِيَاء وَذِكْرًا لِّلْمُتَّقِينَ﴾.
لكن أهمّ الكتب السماوية هي: التوراة، والإنجيل، والقرآن، وقد وصفها الله تعالى
جميعاً بأنّها نور. وهناك بين القرآن الكريم وهذه الكتب وجوه شبه أخرى، وخصوصاً بين
القرآن والتوراة. فالإنجيل يعتمد بشكل أساس على المواعظ، والزبور على الدعاء، ولكن
من حيث القوانين فالتوراة يشبه القرآن الكريم أكثر، ولذا وُصف التوراة بأنه إمام؛
﴿وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إَمَامًا﴾ (هود:
17)، إلّا أنّه لا بدّ من أن يُعلم أنّ القرآن هو الوارث الكامل والجامع
للتوراة والإنجيل والزبور. وفي هذا الزمان الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه
الشريف هو وارث جميع الكتب السماوية؛ لأنّ الإمام في كلّ عصر وزمان هو الوارث لجميع
فضائل من سبقه. وفي بعض زيارات الإمام الحسين عليه السلام: "السلام عليك يا وارث
التوراة والإنجيل والزبور"(3). والإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف هو وارث
جميع الأنبياء والأولياء.
1.التوحيد، الصدوق، ص 327.
2.(م.ن).
3.إقبال الأعمال، ابن طاووس، ج 2، ص 712.