الشيخ محسن قراءتي
إنّ دعاء العهد الذي ورد الحثّ على قراءته في زمن الغيبة،
يبدأ القسم الأول منه، كما ذكرنا في العدد السابق، بـ"معرفة الله" وذلك من خلال ذكر
صفاته تعالى. يتابع هذا المقال شرح هذه الصفات الإلهيّة الواردة في دعاء العهد:
"وَرَبَّ الظِّلِّ وَالْحَرُورِ وَمُنْزِلَ الْقُرْآنِ (الْفُرْقَانِ) الْعَظِيمِ
وَرَبَّ الْمَلاِئكَةِ الْمُقَرَّبِينَ وَالْأَنْبِيَاءِ (وَ) الْمُرْسَلِينَ".
فالعهد مع الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف وصالٌ مع الله أوّلاً.
1- وَرَبَّ الظِّلِّ وَالْحَرُورِ:
الظلّ بمعنى الفيء، والحَرور بمعنى شدّة الحرّ، فالله تعالى هو مالك لكليهما، وهو
خالق الدنيا والآخرة، وجاعل الأضداد، وإله الليل والنهار.
وقد ورد لفظا الظلّ والحرور في القرآن الكريم في قوله تعالى:
﴿وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ﴾ (فاطر: 21)،
حيث شبّه المؤمن والكافر بالظلّ والشمس، فالمؤمن من حيث شخصيّته ومصيره ليس
كالكافر. قال بعض المفسّرين إنّ المقصود بالظلّ الجنّة؛ لأنّها ذات ظلّ دائم،
والمقصود بالحرور نار جهنّم المحرقة(1).
كما إنّه قد ورد في الروايات إطلاق "يوم الحرور" بعنوانه وصفاً ليوم القيامة.
وعن معاذ بن جبل: كنّا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سفر... فقال صلى
الله عليه وآله وسلم: "إنْ أردتم عيش السعداء وموت الشهداء، والنجاة يوم الحشْر
والظلّ يوم الحرور والهدى يوم الضلالة فادرسوا القرآن؛ فإنّه كلام الرحمن وحرزٌ من
الشيطان ورجحان في الميزان"(2).
2- وَمُنْزِلَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ:
يخاطب الله تعالى في القرآن نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم:
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ﴾
(الحجر: 87). إنّ من بين 114 سورة قرآنية، هناك 29 سورة تبدأ بالحروف
المقطّعة، وفي 24 مورداً بعد هذه الحروف تتحدّث الآيات عن القرآن ومعجزته وعظمته،
كما في سورة البقرة بعد قوله تعالى: ﴿ألم﴾،
يقول سبحانه: ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾، ثمّ يشير
إلى عظمة القرآن.
إن الكتَّاب عموماً لا يرون كتبهم خالية من النقص، ويقبلون الملاحظات والاقتراحات
التي تأتي في هذا المجال، لكنّ الله تعالى فقط يقول عن كتابه بصراحة:
﴿الْكِتَابِ الْحَكِيمِ﴾، فجميع آياته محكمة، فهو
كتاب مُحكم لا يقبل الخلل، ولا طريق فيه إلى أيّ نقص أو عيب.
وقد بيّنت الروايات الواردة عن المعصومين عليهم السلام عَظمة القرآن الكريم، ومنها
ما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام حيث يقول: "أَلاَ إِنَّ فِيهِ عِلْمَ مَا
يَأْتي، وَالْحَدِيثَ عَنِ الْمَاضِي، وَدَوَاءَ دَائِكُمْ، وَنَظْمَ مَا
بَيْنَكُمْ"(3). وفي خطبة أخرى: "وَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَعِظْ
أَحَداً بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ، فَإِنَّهُ حَبْلُ اللهِ الْمَتِينُ، وَسَبَبُهُ
الأمِينُ، وَفِيهِ رَبِيعُ الْقَلْبِ، وَيَنَابِيعُ الْعِلْمِ، وَمَا لِلْقَلْبِ
جَلاَءٌ غَيْرُهُ (... ...) وَمَا جَالَسَ هذَا الْقُرْآنَ أَحَدٌ إِلّا قَامَ
عَنْهُ بِزِيَادَة أَوْ نُقْصَان: زِيَادَة فِي هُدىً، أَوْ نُقْصَان مِنْ عَمىً"(4).
"فضل القرآن على سائر الكلام، كفضل الله على خلقه"(5).
وأنا بعد عشرات السنين من جلوسي على هذه المأدبة الإلهيّة، أتمنّى عليكم، أيّها
الأعزاء، أن يكون هذا الكتاب العظيم بالنسبة إليكم مظهراً للعلم الإلهيّ، ولو أنّكم
في كل يوم تدبّرتم في جملة واحدة لاستفدتم فائدة جديدة.
وللطلاب الأعزّاء أقول: إذا أردتم أن تُصبحوا علماء ربّانيين، فعليكم بالاشتغال
-بفهم وتدبّر- بهذا العلم الذي لا نهاية له؛ لأنّ القرآن الكريم يقول:
﴿كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ
الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ﴾ (آل عمران: 79). ففي هذه الآية
تكرّرت كلمة "كنتم" مرّتين، إلى جانب كلمتَي "تُعَلِّمُونَ" و"تَدْرُسُونَ"، ما
يعني الاستمرار والدوام؛ أي إنّ تعليم وتدريس القرآن لا بدّ من أن يكون في كلّ يوم
وفي جميع المراحل.
3- وَرَبَّ الْمَلاِئكَةِ الْمُقَرَّبِينَ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ:
أ- الملائكة المقرّبون:
المقرّب بمعنى القريب. جاء في سورة النساء، الآية 172:
﴿الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ﴾، فالملائكة ليسوا على درجة ومرتبة
واحدة، فمقامهم مختلف، كما أنّ وظائفهم مختلفة. ولم يذكر في القرآن منهم سوى
جبرائيل وميكائيل: ﴿وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ
وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾ (البقرة: 99)، وأما بقيّة الآيات فقد تعرّضت
لأوصافهم، كقوله تعالى: ﴿كِرَامًا كَاتِبِينَ﴾
(الانفطار: 11).
لذا، فإنّ الملائكة فِرَق ومجموعات متعدّدة ومختلفة، ولكلّ مجموعة منها مقام خاصّ،
ولها قدرتها الخاصة بعملها: ﴿وَمَا مِنَّا إِلَّا
لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ﴾ (الصافات: 164)، فمسؤول الوحي جبرائيل، ومسؤول
الأرزاق ميكائيل، ومسؤول قبض الأرواح عزرائيل، ومسؤول النفخ في الصور إسرافيل.
"الروح" أيضاً هو أحد الملائكة المقرّبين من الله تعالى، فقد جاء اسمه في القرآن
بصورة مستقلّة، وعادةً ما يذكر إلى جانب الملائكة، ﴿
يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ﴾ (النبأ: 38)، ﴿تَعْرُجُ
الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ﴾ (المعراج: 4)، و﴿تَنَزَّلُ
الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ﴾ (القدر: 4).
ب- الأنبياء والمرسلون:
من الواضح أن هناك فرقاً بين النبيّ والرسول. وفي ذلك ذُكرت آراء عديدة، منها:
أولاً: إنّ النبيّ من "نبأ"، أي الخبر، فيكون الرسول هو الشخص الذي ألقيت
على عاتقه مهمّة أو رسالة ليبلغها، والنبيّ هو الشخص المطّلع على الوحي الإلهيّ
والذي يُخبر بما يوحى إليه، فالنبي يتلقّى الخبر (أو النبأ) الإلهيّ ويخبر به.
ثانياً: بناءً على كون اسم "النبيّ" مأخوذاً من "نَبْوَة"(6) بمعنى رفعة
المقام، فيكون معناه الشخص العالي المقام والسامي المرتبة. وهو يتلقّى الوحي، إلّا
أنّه ليس مُكلّفاً بإبلاغه، بل مُكلَّف بأداء واجبه فقط، أو الإجابة عن أسئلة من
سأله(7)، مثله كالطبيب الواعي الذي جلس في محلّه مستعداً لاستقبال المرضى، فهو لا
يذهب إلى المرضى، أمّا إذا راجعه مريض، فإنّه لا يمتنع عن معالجته وأداء النُصح
إليه.
والرسول أيضاً صاحب شريعة ومأمور بإبلاغها؛ أي يتلقّى الوحي الإلهيّ ثمّ يبلّغه
للناس، فالرسول كالطبيب السيّار، وبتعبير الإمام عليّ عليه السلام في نهج البلاغة
عن رسول الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم: "طبيب دوّار بطبّه"(8)، فهو يدور
في كلّ مكان، ليجد المرضى ويشرع في علاجهم، فهو عين تنبع بالماء العذب وتجري نحو
العطاشى، وليس عيناً يبحث عنها العطاشى(9).
ختاماً، ينقل أبو ذر الغفّاريّ أيضاً عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّ عدد
الأنبياء 124 ألف نبيّ، كان بينهم 313 رسولاً فقط(10).
بعض الأنبياء لديهم كلا المقامين، كنبيّ الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم، فقد
كان يتلقّى الوحي، ومضافاً إلى ذلك يُبلِّغ أوامر الله تعالى، ويسعى إلى إقامة
الحكومة وتنفيذ الأحكام، وفي الوقت نفسه يقوم عن طريق الباطن بمهمّة تربية
النفوس(11).
1.تفسير القرطبي، ذيل الآية الشريفة.
2.مستدرك الوسائل، الطبرسي، ج 4، ص 232.
3.نهج البلاغة، الخطبة، 158.
4.(م.ن)، الخطبة، 176.
5.بحار الأنوار، المجلسي، ج 89، ص 19، (والرواية عن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم).
6.معنى "نَبْوَة" على وزن "نَغْمَة" بمعنى الرَّبوَة العالية.
7.تفسير الأمثل، ناصر الشيرازي، ج 9، ص 467 - 468.
8.نهج البلاغة، (م.س)، الخطبة 108.
9.تفسير الأمثل، (م.س)، ج 9، ص 468.
10.(م.ن)، ج 3، ص 544.
11.(م.ن)، ج 1، ص 371.