الشيخ محسن قراءتي
يبدأ دعاء العهد، في القسم الأول منه، بذكر الصفات الإلهيّة: "اللَّهُمَّ رَبَّ
النُّورِ الْعَظِيمِ وَرَبَّ الْكُرْسِيِّ الرَّفِيعِ...". وقد ورد شرحه في
الأعداد السابقة. وفي هذا العدد يبيّن الداعي مسائله ومطالبه بذكر الأسماء والصفات
الإلهيّة مرّة أخرى، "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِوَجْهِكَ الْكَرِيمِ،
وَبِنُورِ وَجْهِكَ الْمُنِيرِ، وَمُلْكِكَ الْقَدِيمِ، يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ
أَسْأَلُكَ بِاسْمِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ بِهِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرَضُونَ".
إنّ تكرار الصفات الإلهية في هذين القسمين، وخصوصاً بعد كلمة "أسألك" إنّما هو لكون
الداعي يذكر الأسماء والصفات الإلهيّة المناسبة لحاجته، والتي لا يخلو حتّى تكرارها
من اللّطف.
* تحصل الكمالات بالتكرار
كان أمير المؤمنين عليه السلام أحياناً يكرّر بعض الألفاظ ليحثَّ بعض الناس على
أمرٍ ما، مثلاً في وصيّته لأبنائه يقول: "الله الله في الأيتام"، "الله الله في
جيرانكم"...(1)، فيكرّر عليه السلام لفظ الجلالة في هذه العبارات. وتكرار
الصلاة في كلّ يوم وليلة هو لأجل أن نقترب من الله تعالى في كل يوم خطوة. الشخص
الذي يصعد على درجات السلّم هو في الظاهر يكرّر تحريك رجله، إلّا أنّه في الواقع
يقطع بكلّ حركة خطوة إلى الأمام ويرتفع إلى الأعلى. والشخص الذي يحفر بئراً ويضرب
بمعوَله، هو في الظاهر يقوم بعمل تكراريّ، لكنّه في الواقع يزيد بكلّ حركة عمق
البئر.
كذلك الإنسان بكلّ صلاة وذكر وتلاوة آية، يقترب من الله تعالى خطوة، إلى أن يصل إلى
ما نقرأه حول نبيّنا الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم:
﴿دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ
قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾ (النجم: 8-9).
تكرار الوصيّة بالتقوى في كلّ من خطبتَي صلاة الجمعة في كلّ أسبوع، أحد أوجه دور
التكرار في التربية الدينيّة للناس. إنّ بقاء الحياة متوقّف على التنفس المتكرّر،
والكمالات إنّما تحصل بالتكرار، فبمرّة واحدة من الإنفاق والإقدام لا يحصل الإنسان
على ملكة السخاء والشجاعة، كما أنّ الرذائل والخبائث تثبت في روح الإنسان من خلال
التكرار.
* "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ"
لذا في هذا القسم، ثمّة عشرة أمور: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ":
1- بوجهك الكريم:
الله تعالى ليس بجسم، كي يكون له وجه. فالمقصود من هذه الكلمات ليس معناها
الظاهريّ. نقرأ في سورة البقرة الآية 115 قوله تعالى:
﴿وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ
فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾،
وفي آخر سورة القصص أيضاً نقرأ قوله تعالى:
﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾.
وعليه:
أولاً: وجه الله باقٍ وفي كلّ مكان، لذا لا بدّ من أن نقصده هو فقط
لحاجاتنا، وإذا جعلنا أولياء الله واسطة، فلا بدّ من أنْ نعلم بأنّهم يقومون بإيصال
الفيض الإلهيّ إلينا.
ثانياً: هو كريم. وقد ذكرت هذه الصفة في القرآن كإحدى الصفات الإلهيّة:
﴿مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيم﴾ (الانفطار: 6). والكريم يعني العظيم والمعطي.
نعم، يمكن القول إنّ المصداق البارز والكامل لوجه الله الكريم في هذا العصر والزمان
هو الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف؛ لأنّه جاء عن الإمام الرضا عليه
السلام قال: "وجه الله أنبياؤه ورسله وحججه صلوات الله عليهم. هم الذين بهم
يتوجّه إلى الله وإلى دينه ومعرفته"(2). وفي دعاء الندبة أيضاً نقرأ في وصف
إمام الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف: "أين وجه الله الذي إليه يتوجّه
الأولياء".
2- وبنور وجهك المنير:
يخاطب الإمام الحسين عليه السلام الله تعالى في دعاء "عرفة" بهذا الخطاب: "فأسألك
بنور وجهك الذي أشرقت له الأرض والسماوات"(3).
هناك فرق بين نور الوجه وبين الوجه الوارد في الجملة السابقة. فالله تعالى نور
ومنوِّر أيضاً وكل نور العالم هو انعكاس نور جماله، وهو الذي يعطي النور لمن يشاء
ويجعله نورانياً. وكل فرد بمقدار ما يكون مقرّباً من الحضرة الإلهيّة يصير منيراً،
لذا وُصف النبي صلى الله عليه وآله وسلم في القرآن بأنه منير،
﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا
أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ
بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا﴾ (الأحزاب: 45-46).
واليوم، فإن المخلوق الوحيد الذي اكتسب نوره من الله تعالى في المرتبة الأعلى،
والذي يعطي النور لمن سواه، هو آخر ورثة النبيّ، الإمام المهديّ عجل الله تعالى
فرجه الشريف.
3- وملكك القديم:
الله تعالى هو المالك وهو مَن بيده جميع أمور عالم الوجود،
﴿وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْض﴾ (المائدة: 120).
"الملِك" في اللغة بمعنى الحاكم ومن بيده زمام الأمور، وفي سورة الحديد، الآية 2:
﴿لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
4- يا حيّ يا قيّوم:
في آية الكرسي نقرأ قوله تعالى:
﴿اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ
الْقَيُّومُ﴾.
يفترق معنى الحياة في حقّ الذات الإلهية عن معناها في حقّ الآخرين، وهي كسائر
الصفات الإلهيّة لا تقبل الانفكاك عن الذات، فلا طريق لطروء الفناء عليه تعالى:
﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا
يَمُوتُ﴾ (الفرقان: 58).
أمّا "القيّوم" فهي من القيام، والقيام والقِوام: اسم لما يقوم به الشيء؛ أي يثبت،
كالعِماد والسِّناد: لما يُعمد ويُسند به(4). وكلمة "قيّوم" قد جاءت في القرآن
الكريم ثلاث مرّات، وفي كلّ مرّة من هذه المرّات الثلاثة كانت تأتي معها كلمة
"حيّ". وقيام الله تعالى بنفس ذاته، وأما قيام سائر الموجودات فبوجوده سبحانه.
والمراد من القيوميّة الإلهيّة هو تسلّطه وحفظه وتدبيره سبحانه الكامل لمخلوقاته.
وقيامه دائم ومحيط من كلّ جانب: يخلق، ويرزق، ويهدي، ويميت، ولا يغفل أبداً.
كلّ موجود حيّ يحتاج في بقائه حيّاً إلى منبع الفيض. وهكذا جميع الموجودات تحتاج في
حياتها إلى "الحيّ"، ولاستمرار بقائها إلى الاستمداد من "القيوم". يقول أمير
المؤمنين عليه السلام: "كلّ شيء خاضع له، وكل شيء قائم به"(5).
5- باسمك الذي أشرقت به السموات والأرضون:
مرة أخرى يؤكّد الداعي الطلب باسم الله يعني أنّني أطلب العون منك فقط، وأنت
معتمَدي ومعشوقي فقط، لأنّ جميع من في هذا العالم وما فيه راجع إلى الله سبحانه.
والأنبياء إنّما جاؤوا ليُرجعوا الناس إلى الله تعالى، فالتوحيد معناه أنّ أصل
وأساس ومنبع هذا الوجود هو الله تعالى.
وفي القرآن الكريم ما يشبه هذه الفقرة. يقول تعالى:
﴿وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ
رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ
بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ (الزمر: 69).
قالوا: إشراق الآخرة بنور الله ليس معناه أنّ الدنيا خالية من النور الإلهيّ، بل
الدنيا كالآخرة أيضاً مشرقة بنور ربّها، لكنّه بسبب خصائص الدنيا وأحكامها فإنّ هذا
النور غير مشاهَد، وأمّا في الآخرة فسوف يتجلّى النور الإلهيّ بالكامل، وسيقف عليه
الجميع ويشاهدونه.
ولا بدّ من أن يُعلم، أنّه بناءً على ما يعتقد به الشيعة، فإنّ أهل البيت عليهم
السلام هم أعظم تجلّيات النور الإلهي، وإنّ نورهم يشرق ويهدي بنور الله تعالى.
وفي رواية ذكرت أنّ الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف هو سبب نور الأرض(6).
نعم، الآية المذكورة فُسّرت وأُوّلت في الروايات بقيام الإمام المهديّ عجل الله
تعالى فرجه الشريف أيضاً. وفي الحقيقة هو نوع تشبيه وتأكيد على هذا الأمر.
كما يُبيّن الإمام الصادق عليه السلام تغيّر العالم في زمان ظهور الإمام صاحب العصر
والزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف في ظلّ الآية الشريفة:
﴿وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ
رَبِّهَا﴾،
بقوله: "إنّ قائمنا إذا قام أشرقت الأرض بنور ربّها واستغنى العباد عن ضوء
الشمس"(7).
1.نهج البلاغة، قسم الوصايا، 47.
2.التوحيد، الصدوق، ص 117.
3.بحار الأنوار، المجلسي، ج 95، ص 219؛ إقبال الأعمال، ابن طاووس، ج 1، ص 343.
4.مفردات ألفاظ القرآن، الراغب الأصفهاني، ذيل كلمة "قيوم"، ص 156.
5.نهج البلاغة، (م.س)، الخطبة رقم 108.
6.نور الثقلين، الحويزي، ذيل الآية، حديث 121؛ تفسير القمي، علي بن إبراهيم القمي،
ج 2، ص 253.
7.بحار الأنوار، (م.س)، ج 52، ص 337.