نضع بين أيدي قرّائنا الأعزّاء في هذا الباب، على حلقات، بعض ما سطّره القلم
الربّانيّ للإمام الخميني قدس سره في كتاب الآداب المعنويّة للصلاة، والذي قال قدس
سره في مقدّمتها إنّه "شطرٌ من الآداب القلبيّة لهذا المعراج الروحانيّ لعلّها تكون
للإخوة في سبيل الإيمان ذكراً"، ولعلّها تكون لنا وللقرّاء في هذا الباب ذكراً.
* الصلاة روح ملكوتيّ
اعلم، أنّ للصلاة معنى غير هذه الصورة، وأنّ لها باطناً دون هذا الظاهر. وكما إنّ
لظاهرها آداباً يؤدّي عدم رعايتها إلى بطلان الصلاة الصورية أو نقصانها، فإنّ
لباطنها آداباً قلبية باطنية يلزم من عدم رعايتها بطلان أو نقص في الصلاة المعنوية،
كما إنّه برعاية تلك الآداب تكون الصلاة ذات روح ملكوتيّة.
ورد عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنّه قال: "من صلّى الصلوات
المفروضات في أوّل وقتها وأقام حدودها، رفعها الملك إلى السماء بيضاء نقيّة، وهي
تهتف به: حفظك الله كما حفظتني، استودعتني ملكاً كريماً. ومن صلّاها بعد وقتها من
غير علّة ولم يُقم حدودها، رفعها الملك سوداء مظلمة وهي تهتف به ضيّعتني، ضيّعك
الله كما ضيّعتني، ولا رعاك الله كما لم تَرْعَني"(1).
* مرقاة العروج إلى المحبوب المطلق
وممّا لا بدّ من التنبيه عليه، ها هنا، أنّ من أعلى مراتب الخسران والضرر الاقتناع
بصورة الصلاة وقشرها، والحرمان من بركاتها وكمالاتها الباطنيّة التي توجب السعادات
الأبدية، بل إنّها توجب جوار ربّ العزّة؛ لأنّها "إن قُبلت قُبل ما سواها وإن رُدّت
رُدّ ما سواها"(2).
ونبيّن [في هذا المختصر] بعض الآداب الباطنية لهذا السلوك الروحانيّ بمقدار الميسور
والمقتضى.
* في الآداب المعنوية للصلاة
وهي الآداب التي تكون ضروريّة في جميع حالات الصلاة، بل في جميع العبادات والمناسك،
سنذكر منها:
* في التوجّه إلى عزّ الربوبية وذلّ العبودية
من الآداب القلبيّة في العبادات والوظائف الباطنية لسالك طريق الآخرة، التوجّه إلى
عزّ الربوبية وذلّ العبودية. وهذا التوجّه من المنازل المهمّة في السلوك للسالك.
وكلّما كان النظر إلى الإنيّة والأنانية(3) ورؤية النفس وحبّها في الإنسان غالباً،
كان بعيداً عن كمال الإنسانية ومهجوراً من مقام القرب الربوبيّ؛ لأنّ حجاب رؤية
النفس وعبادتها أضخم الحُجب وأظلمها، وخرق هذا الحجاب أصعب من خرق جميع الحُجب، وهو
مفتاح مفاتيح الغيب والشهادة وباب أبواب العروج إلى كمال الروحانية، والخروج من هذا
المنزل هو أول شرط للسلوك إلى الله. فكلّ سالك يسلك بخطوة الأنانية ورؤية النفس
تكون رياضته باطلة ولا يكون سلوكه إلى الله، بل إلى النفس (أمّ الأصنام صنم نفسك).
قال تعالى: ﴿وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا
إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى
اللّهِ﴾ (النساء: 100).
* العبودية جوهرة كُنهها الربوبية
فالهجرة الصوريّة عبارة عن هجرة البدن "المنزل الصوريّ" إلى الكعبة أو إلى مشاهد
الأولياء، والهجرة المعنوية هي الخروج من بيت النفس ومنزل الدنيا إلى الله ورسوله،
والهجرة إلى الرسول وإلى الوليّ أيضاً هجرة إلى الله، وما دام للسالك تعلّق ما
بنفسه وتوجّه منه إلى إنّيّته فليس هو بمسافر.
وفي مصباح الشريعة قال الإمام الصادق عليه السلام: "العبودية جوهرة كُنهها
الربوبية، فما فُقد في العبودية وُجد في الربوبية، وما خفي من الربوبية أُصيب في
العبودية".
فإذا ترك العبد التصرّفات من عنده وسلّم حكومة وجوده كلّها إلى الحقّ، وخلّى بين
البيت وصاحبه، وفنيَ في عزّ الربوبيّة، فحينئذٍ يكون المتصرّف في الدار صاحبها؛
فتصير تصرّفات العبد إلهيّة؛ فيكون بصره بصراً إلهيّاً وينظر ببصر الحقّ، ويكون
سمعه سمعاً إلهيّاً فيسمع بسمع الحقّ؛ لأنّ هذين -أي عزّ العبودية وعزّ الربوبية-
متقابلان "الدنيا والآخرة ضرّتان"، فمن الضروريّ للسالك أن يتفطّن إلى ذلّه ويكون
ذلّ العبودية وعزّ الربوبية نصب عينيه.
وكلّما قوي هذا النظر زادت روحانيّته في العبادة وكانت روح العبادة أقوى، حتّى إذا
تمكّن العبد -بنصرة الحقّ وأوليائه الكُمّل عليهم السلام- من الوصول إلى حقيقة
العبودية وكنهها، فإنّه يجد حينئذٍ لمحة من سرّ العبادة.
* العبوديّة المطلقة
وليُعلَم أنّ "العبودية المطلقة"(4) من أعلى مراتب الكمال، وأرفع مقامات
الإنسانيّة، وليس لأحد فيها نصيب سوى الأكمل من خلق الله، محمّد صلى الله عليه وآله
وسلم وأولياء الله الكُمّل، فله صلى الله عليه وآله وسلم هذا المقام بالأصالة
وللأولياء الكمّل بالتبعية، وأمّا بقية العباد فهم في طريق العبادة وعبادتهم
وعبوديّتهم معلّلة ولا يُنال المعراج الحقيقيّ المطلق إلّا بقدم العبودية؛ ولهذا
قال الله سبحانه: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى
بِعَبْدِهِ﴾ (الإسراء: 1)، فقد أسرى الله سبحانه بتلك الذات المقدّسة
إلى معراج القرب والوصول بقدم العبودية والجذبة الربوبية.
(*) مقتطف من كتاب الآداب المعنوية للصلاة، للإمام روح الله الخميني قدس سره،
ص22-34.
1.الأمالي، الصدوق، ص328.
2.كتاب الصلاة، الحائري، ص1.
3.الإنيّة: ما يتحدّد به وجود الشيء فيكون حقيقته وقوامه (إنيّة الإنسان وجوده).
الأنانيّــة: حــبّ الإنســـان لنفسه.
4.العبــوديّة المطلقة: تمرين النفس وترويضها بالعبادة والطاعة.