الشيخ أحمد وهبي
في زمنٍ كثُر فيه القتل بشكل فظيع ومرعب، ومن مدّعين للإسلام وتحت اسم النبيّ محمّد
صلى الله عليه وآله وسلم، قد يظنّ المرء أنّ لا مهربَ من هذا الموت الرهيب، وأنّ
الإسلام يأمر فقط بالحرب، ولا حلّ لديه لمنعها أو إيقافها. ولا شكّ في أنّ من يرى
ما يفعله المدّعون للإسلام، وهم يرفعون رايته، ويقتلون باسمه، سينظر إلى الإسلام
نظرة مستنكر ورافض له. في هذا المقال سنتعرّض لصلح الحديبيّة، ونبيّن أنّ الدين
الإسلاميّ بشخص النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم دينٌ يسعى للحفاظ على السلم والسلام
والصلح والصلاح والوئام بين الناس، لا كما يُظهره المستكبرون على أنّه دين القتل
والسيف.
* الإسلام دين السلام
يدعو الإسلام إلى السلم والسلام والصلح والصلاح، من خلال مبادئه وأخلاقياته وآدابه
وتشريعاته وتعليماته وأنظمته وأهدافه. فالإسلام لا يسعى للدخول إلى نفوس الناس
بالقوّة، بل من خلال الكلمة الحسنة والحوار ولغة الفكر المتين والقويّ والثقافة، ما
كان السبب الأساس في انتشار الإسلام، بينما كانت الحروب التي أُشعلت في مواجهته،
سواء من قبل من ادّعى الإسلام أو غيرهم، هي السبب في الحدّ من انتشاره.
إنّ الحروب التي قام بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانت حروباً دفاعية، لدفع
الخطر عن الدين وعن دولته الفتية، التي منذ نشأت وعبدة الأصنام في قريش يحاربونها،
حتى وصل الأمر إلى القتل؛ ما اضطُرّ المؤمنين إلى الهجرة، ثمّ إنّهم لاحقوهم
وحاربوهم في المدينة. وعندما كثرت أعداد المؤمنين واتّسعت رقعة سيطرتهم، بدأ الهجوم
ضدّهم من الدول المحيطة، دون بدءٍ منهم بحرب.
* الصلح حقناً للدماء
إنّ المسلمين قبلوا الصلح، وهم في موقع القوّة؛ حتّى أدّى ذلك إلى اعتراض بعض
الأنصار بحجّة أنّهم منتصرون بالفعل، فلا يحتاجون إلى الصلح؛ لكن هؤلاء الدعاة إلى
الله كان غرضهم الهداية، لا القتل، ولو لعدوّهم وإن أراد القتال؛ ولذلك كانوا
يقبلون بالصلح واللجوء دائماً إلى الحلول التي تمنع إراقة الدماء.
* روح الإسلام
الصلح والسلم من روح الإسلام الذي يكون تطبيقه عمليّاً من خلال العمل الصالح.
فالدعوة منذ آدم عليه السلام حتّى نبيّنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم كانت إلى
الإسلام والعمل الصالح. وتظهر أهميّة الحفاظ على حياة المجتمعات وأفرادها في القرآن
الكريم، من خلال:
1- تسمية الله نفسه بالسلام، ﴿هُوَ اللَّهُ
الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ﴾
(الحشر: 23).
2- إخباره تعالى أنّ دعوته الهداية إلى سبل السلام،
﴿وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ﴾ (يونس: 25)، وقرآنه يهدي إلى
السلام: ﴿يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ
رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ﴾ (المائدة: 16).
3- عدم الدعوة إلى الحرب إلّا دفاعاً عن الدين، وأمر النبيّ صلى الله عليه وآله
وسلم بأن يجنح إلى السلم إذا أراد الأعداء السلم، وليس إلى الحرب،
﴿وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا﴾
(الأنفال: 61).
4- تقديم الصلح وتفضيله على غيره، ﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾
(النساء: 127).
5- أمر المؤمنين بأن يدخلوا في السلم، ﴿يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً﴾ (البقرة: 208)،
وأمرهم بأن يصلحوا بين المتقاتلين منهم، ﴿وَإِن
طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا﴾
(الحجر: 9).
6- جواز إقامة الصلح والسلم مع المشركين، وإن حصل الصلح والمعاهدة معهم، فلا يجوز
القيام بما يخلّ بهذه المعاهدة بحجّة شركهم، ﴿إلاَّ
الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ
يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى
مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ (التوبة: 3).
7- إذا اعتدى مؤمنون على قوم أُقيم معهم ميثاق، فلا يجوز نصرهم عليهم، بل يجب
الالتزام بالعهد، ﴿وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ
فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ
وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُوَن بصِيرٌ﴾ (الأنفال: 72).
إذاً، السلم والصلح لهما مكانة في الدعوة الإسلامية تنبع من القيم التي أعطاها
الإسلام للإنسان.
* صلح الحديبية
في السنة السادسة للهجرة، قويت شوكة الإسلام بعد جهاد طويل مع المشركين واليهود
والعرب في الجزيرة العربية، انتصر فيه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وحصلت في
هذه السّنة بعض الانتكاسات، وبعد كل السنوات التي مضت والتي مُنع المسلمون فيها من
دخول مكّة المكرّمة منذ بداية الدعوة، عزم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على
زيارة البيت الحرام وأداء مناسك الحجّ في العشرة الأولى من شهر ذي القعدة، ولم يكن
في نيته القتال مع قريش، وقد أخرج معه الكثير من غير المسلمين، ليُعلن أنه لم يخرج
للقتال، وخصوصاً أنّه خرج في شهر ذي القعدة الحرام الذي يحرم فيه القتال عند العرب
والمسلمين.
وبعد جولات عديدة من المفاوضات لدخول مكة، أبلغهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم
بجواب واحد: "إنّا لم نجئ لقتال، ولكنّا جئنا معتمرين"، لكنّ قريشاً لم تقتنع بذلك
واتّهمت بعض مبعوثيها بالجُبْن والكذب، فقرّر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أن
يبعث من جهته سفيراً إلى قريش، ليُوضِّح لها الهدف الذي جاء المسلمون من أجله،
فاختار "خراش بن أميّة" من قبيلة خزاعة لأداء المهمّة، لكن حين بلغ خراش مكّة عقروا
بعيره، وأرادوا الفتك به لولا أن منعتهم الأحابيش، فرجع إلى معسكر النبيّ صلى الله
عليه وآله وسلم وأخبره أنّ قريشاً رفضت بشكل نهائيّ السماح له صلى الله عليه وآله
وسلم بالدخول إلى مكّة ولو أدّى ذلك إلى الحرب. وهذا ما لم يكن يريده النبيّ صلى
الله عليه وآله وسلم.
لم ييأس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رغم التصلُّب الذي أبدته قيادة قريش ضدّ
محاولاته السلميّة. ولا شك في أنّه صلى الله عليه وآله وسلم كان يرى بنظره الثاقب
النتائج الطيّبة التي ستجنيها الدعوة الإسلاميّة، إذا ما سادت العلاقات السلميّة
فترة من الوقت مع قريش، فأرسل عثمان بن عفّان إلى مكّة فاعتقلته قريش ثلاثة أيّام
حتّى ظنّ المسلمون أنّه قُتل؛ فلم يجد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بُدّاً من
التهيّؤ للقتال، فدعا الناس إلى البيعة على الصمود بوجه قريش، فانهال عليه المسلمون
يُبايعونه، وهو واقف تحت شجرة في بيعة سُمّيت فيما بعد شجرة الرضوان نسبةً إلى
البيعة التي تمّت تحتها.
تَخوَّفت قريش من استعداد المسلمين للقتال، بعدما بلغتهم أنباء بيعة الرضوان،
فقرّرت استئناف المفاوضات، وأرسلت سهيل بن عمرو سفيراً إلى النبيّ صلى الله عليه
وآله وسلم، فالتقى سهيل بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وجرت مفاوضات طويلة انتهت
أخيراً بالاتفاق على إبرام معاهدة هدنة بين الطرفين، وتمّت الموافقة على جميع
بنودها.
وكان من أبرز بنودها:
1- اتّفق الطرفان على وضع الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس، ويكفّ بعضهم عن بعض.
2- من أتى محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم من قريش بغير إذن وليّه رَدّهُ عليهم،
ومن جاء قريشاً ممّن مع محمّد لم يردّوه عليه.
3- من أحبّ أن يدخل في عقد محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وعهده، كان له ذلك، ومن
أحبَّ أن يدخل في عقد قريش وعهدهم، كان له ذلك أيضاً، من غير حرج عليه من أحد
الطرفين.
4- أن يرجع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بمن معه هذا العام، على أن يأتي في
العام القادم فيدخل مكّة ويُقيم فيها ثلاثة أيّام، ولا يدخل عليها بسلاح إلَّا سلاح
المسافر، والسيوف في القُرَب.
5- أن لا يكون الإسلام ظاهراً في مكّة، ولا يُكره أحد على دينه، ولا يُؤذى ولا
يُعيَّر.
6- لا إسلال (سرقة) ولا إغلال (خيانة)، بل يَحترِم كلّ طرف أموال الطرف الآخر، فلا
يخونه ولا يعتدي عليه بسرقة.
7- أن لا تُعين قريش على محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بنفسٍ ولا سلاح.
* مميزات سلوك النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في الصلح
ثمّة بعض العِبر والملاحظات الأخلاقية والعسكرية والسياسية الهامة يمكن أخذها من
هذا الصلح، هي:
1- نيّة الإصلاح، ﴿إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا
يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا﴾ (النساء: 35). فالصلح يُقام على أساس
الوفاء بالميثاق والعهد، والله لا يخلف الميعاد ولا يرضى بإخلافه ونقضه،
﴿فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ﴾ (التوبة: 4).
2- تواضع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وعدم ترفّعه صلى الله عليه وآله وسلم عن
الحضور بنفسه في الصلح، وعدم تعاليه على مندوب قريش والجلوس معه، وهذا أيَضاً تواضع
منه يظهر أخلاق النبوّة.
3- صلح القويّ، لم يكن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ضعيفاً في مواجهة قريش؛ بل،
كان صلحه صلحَ القوي؛ إذ إنّه صلى الله عليه وآله وسلم استعدّ للقتال بعد أن
اعتقلوا عثمانَ، لولا أن أرسلت قريش مندوبها للصلح؛ مع ذلك نجد هذا الصلح كله
تنازلات، وفي المقابل كانت قريش متشدّدة وعدوانية.
4- حزم في لين، امتازت حركة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم باللُّيونة الحازمة
والتواضع العزيز، إذ كان صلى الله عليه وآله وسلم يريد الهداية والدعوة إلى الله،
ولذلك عندما دخل صلى الله عليه وآله وسلم مكة ردّاً على نقض الصلح، لم يذلّ أحداً،
بل قال: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن"، مع ما كان عليه أبو سفيان من العداوة له.
5- السيطرة على العدوّ، من خلال ترجيح كفّة قريش برجوعه من مكة والقبول بإرجاع من
أسلم إليها دون إذن وليه، وعدم إظهار الإسلام في مكة من أجل عدم إشعارها بالضعف، كي
لا تقوم بردّ فعل لتعوّض إحساسها بالنقص.
6- الوفاء بالعهد في وقت الصلح، فقد كان أبو جندل بن سهيل بن عمرو ابن مندوب قريش
سهيل بن عمرو قد أسلم والتحق بالمسلمين، فردّه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى
أبيه بناءً على العهد، فجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته: "يا معشر المسلمين أأردّ إلى
المشركين يفتنوني عن ديني؟ فزاد ذلك الناس إلى ما بهم، فقال رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم: يا أبا جندل! اصبر واحتسب، فإنّ الله جاعل لك ولمن معك من
المستضعفين فرجاً ومخرجاً. إنّا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحاً".
7- إيقاف الحرب عشر سنين. وهذا قد يكون آخر ما تفكّر فيه قريش؛ لأن همّها كان
القضاء على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، ولعله كان أهمّ هدف للذهاب إلى مكة، بل
لعله هو الهدف الأساس، ليستقرّ الناس ويأمنوا على أنفسهم.
8 - تثبيت مبدأ عدم الإكراه في المعتقد، وعدم إجبار الناس على الاعتقاد بما لا
يؤمنون به، قال تعالى: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾
(البقرة: 256).
9- تثبيت مبدأ حرية الرأي والتبعية السياسية، من غير عدوان وتجاوز للحقوق، بل تنافس
حرّ يرفض الحرب والقتال.
كانت هذه قراءة موجزة في مفصل واحد، من مفاصل سيرة رسول الإنسانية صلى الله عليه
وآله وسلم، حيث علّمنا التحليق بجناحين: نشر الدين وقيمه، مضافاً إلى ضرورة إزالة
العواقب التي صنعها الأعداء. ولم تكن الحرب في الإسلام يوماً للانتقام ولا التشفّي.