تنمية معنويّات الناس وقدراتهم كانت ممّا بُعث الأنبياء
لأجله، إضافة إلى العمل على إخراج المستضعفين من الناس من هيمنة المستكبرين.
* قيد النفس وهيمنة الظالمين
فمنذ البداية، تمحور عمل الأنبياء حول جانبين: الجانب المعنويّ، لإخراج الناس من
قيْد النفس وأسْر ذواتهم التي هي الشيطان الأكبر، والجانب الآخر هو تحريرهم من
هيمنة الظالمين.
وهذا ما أفادنا به القرآن الكريم عندما تحدّث عن النبيّ موسى والنبيّ إبراهيم
عليهما السلام، فهما قد اهتمّا بهذين الجانبين، الأول: دعوة الناس إلى التوحيد،
والثاني: إنقاذ التعساء من الظلم. وإذا كان هذا الجانب مهمّشاً في تعليمات السيّد
المسيح عليه السلام فهو لأنّه لم يُعمّر طويلاً وكان احتكاكه بالناس قليلاً، وإلّا
فإنّ نهجه هو النهج ذاته الذي اتّبعه النبيّ موسى وجميع الأنبياء عليهم السلام.
والأسمى منهم جميعاً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث نرى هذين الجانبين
بارزين في سيرته، كما أفاد بذلك القرآن والسنّة.
دعا القرآن إلى تنمية المعنويات بالقدر الذي يستطيع الإنسان تحقيقه، ومن ثمّ دعا
إلى إقامة العدل.
* هدف جميع الأنبياء
والرؤية الإسلاميّة تهتمّ بهذين الجانبين: حفظ المعنويات، وبسط العدل وإنقاذ
المظلومين من أيدي الظالمين. ولا فرق في ذلك سواء كانوا يظلمون من قبل الحكومات أو
الطغاة أو المستبدّين... جاء الإسلام من أجل ذلك، ويجب أن نحرص عليه لأنّنا أتباع
الإسلام، ويجب أن نحرص على القوانين الإسلاميّة، فإذا تمّت المحافظة على القوانين
الإسلامية بأفضل مستوياتها فسوف يتحقّق هذان الهدفان اللذان هما هدف جميع الأنبياء:
1- ارتقاء المعنويّات لدى الناس.
2- إقامة العدل في المجتمع.
فالهدف واحد وعلى الجميع المساهمة في تحقيق هذا الهدف.
* طلب الجاه للنفس شيطنة باطنيّة
يكمُن الهدف في حاكميّة الإسلام، وليس في أن أطبّقه أنا دون غيري. فمن الأمور التي
ابتلي بها الإنسان هذه "الشيطنة الباطنية"، حيث تحرص قلّة على أن تتصدّى للأمور
بنفسها. وإذا كان بوسع الآخرين التصدّي بنحو أفضل فإنّها تغضب؛ لأنّها تريد أن
تبرهن على وجودها. وكلّ هذا من شيطنة الإنسان الباطنيّة؛ إذ يحاول الإنسان أن يطرح
نفسه بظاهر مقدّس قائلاً: إنّي أريد أن أنال هذا الثواب. فالمسألة ليست أنّي أريد
الثواب وإنّما أريد الدنيا. فإذا ما ظهر الاختلاف بين الأشخاص فليتمعّنوا في ذواتهم
ليتحقّقوا هل المسألة هي لأجل مصلحة الإسلام والمسلمين أم مصلحتهم هم؟ فإذا كان
العمل من أجل الله تعالى فيجب أن لا يكون ذلك مثارَ اختلاف.
* أنقذوا أنفسكم
يجب أن نكون يداً واحدة كما أمرنا الإسلام: المسلمون يدٌ واحدة على مَن سواهم. فلو
قيل "يدان" فربما تؤدّي هذه اليد عملاً لا توافقه اليد الأخرى. واليد الواحدة تعني
سحق النفس الأمّارة، وتبديد الآمال التي تتصوّرون أنّها تشكّل شيئاً... حاولوا أن
تتأمّلوا في من نكون نحن وما هذه المنظومة الشمسيّة وهذه الأجرام السماويّة في
مقابل عظمة الله تعالى حتّى تدركوا أنّنا نعاني من "شيطنة خبيثة"، وليست شيطنة
فحسب. ولا بدّ لنا من العمل على إنقاذ أنفسنا، إنقاذ أنفسكم. فإذا تحرّرتم من هذا
القيد فما يلي ذلك سيكون سهلاً. ستكون الوحدة سهلة يسيرة. ولكن يجب أن نتخلّص من
هذا القيد، قيد الأنانيّة، حيث كلّ ما موجود هو لي أنا لا غير.
* الكمال المطلق فطرة الله
مثل هذا تعاني منه كلّ النفوس ما لم يتمّ تهذيبها، لأنّ فطرة الله هي التوجّه إلى
الكمال المطلق، فالإنسان ينشد الكمال المطلق لنفسه طالما كان ناقصاً. يريد القوّة
لنفسه، لأنّه ناقص. لكنّه ينشد قدرة الله ولا يدري بأنّ فطرته تتّجه إلى الله.
الفطرة هي التوحيد، لأنّ جميع الناس على هذه الفطرة والتي ربما هي أحد أقوى الأدلّة
على التوحيد. فلو وضع هذا العالم كلّه تحت نفوذكم، وسئلتم هل تريدون المزيد؟ فمن
المحال أن ترفضوا. إلّا أن يصل الإنسان إلى معدن الكمال ويبدّد الحجب. وهذا قليل
جداً.
* السعي لتقوية المعنويّة وسحق الأنا
علينا أن نسعى إلى تقوية المعنويّة وسحق الأنا بكلّ ما نستطيع، فإذا تحقّق ذلك
فستُحلّ كلّ القضايا الأخرى، لأنّ الاختلافات تكمن في ذلك. وقد اعترض الشيطان منذ
اليوم الأول قائلاً:
﴿خَلَقْتَنِـي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَـهُ
مِـن طِيـنٍ﴾ (الأعراف: 12) فعصى الله تعالى. وهذا إرث شيطانيّ
ورثنـاه جميـعاً. كلّنا نرى ما عندنا أفضل ممّا عند الآخرين. نتجاهل عيوبنا ونرى
العيب الصغير لدى الآخرين كبيراً. إنّها الفطرة الإلهية التي عملنا على حرفها.
فالفطرة مجبولة على التوحيد، ولكن عندما تصل يد الشيطان إلى الإنسان فإنّها تحرفها.
وهذا كلّه ناتج عن أنّ الإنسان لم يهذّب ذاته حتّى يطلب العدل من أجل العدل ولا من
أجل نفسه. ونحن أيضاً إذا أردنا العدل فإننا ننشده من أجل أنفسنا.. فإذا طبّق العدل
علينا وكان لا يروق لنا سوف نرفضه. إنّ جذور ذلك كلّه تكمن في ذات الإنسان؛ فإذا
تمّ اجتثاث هذه الجذور أو إضعافها على الأقلّ، فسوف تحلّ كلّ القضايا ويصبح الجميع
إخوة. ولكن إذا ما سيطرت الأنانيّة على قلب الإنسان، فإنه يرفض العدل وإن كان
خالصاً.
(*) خطاب الإمام قدس سره في 1 شوال 1403 هـ.ق. في حسينية جماران - طهران.