الشيخ علي حمادي
تحرّكت في مطبخها بهدوء. كانت تشعرُ بطوفانٍ من السعادة ربّما يغمر كلَّ أطراف الأرض.
حرّكت الطعام في المقلاة. الرّائحة وحدها تكفي لتخبر عن مهارتها في فنّ الطبخ. ولكن هناك نكهةٌ خاصة مميّزة هذه الأيام لم يعرف أحدٌ سرَّها حتى الآن.
هي أيضاً لم تكن متأكدةً من شعورها. حاولتْ أن تخبرَ جواداً عدّة مرات في الأسبوع الماضي، ولكنّها تراجعت في كل مرة.
* تجلّيات المودّة
خمس سنواتٍ مرّت على زواجهما. عرفت هاجرُ فيها أحلى تجلّيات المودّة. هل هناك فعلاً بشرٌ بهذه الصّفات؟! كانت تسأل نفسها وبسمة الرّضا ترسمُ خلاصة العمر على زهور شفتيها كلما تذكرت زوجها ودقَّ نبْض الشوق في أرجاء جوانحها.
جلستْ تأكل وحدها وتنظر إلى السّاعة المملّة التي لا تراعي مشاعر المنتظرين. "آهٍ لو أن عقاربكِ تعلم بحالي لشدّت على الزمن كفارسٍ على صهوة البراق"، قالت في سرّها.
* رنين الهاتف
هذه المرّة تأخر جواد أيامّاً أكثر من العادة. تحسّرت من هذا الحظ السيّئ. وكانت في كلّ يوم تجدّد له المفاجأة من لباس مميّز، وطعام مفضّل يحبه، وزينةٍ وشمعة، ولكنّه لا يأتي. هذه المرة هي متأكدة ولن تتردّد لحظةً في أن تنظر بعينيه وتقول: "حبيبي جواد سوف...".
قطع عميق أفكارها رنين جرس الهاتف.
يا إلهي.. هذا هو.. قالت وهي تسرع نحو الهاتف...
"ألو... جواد...".
صمتت لحظةً...
ثمّ صمتٌ عمّ الزمانَ والمكانَ والفؤاد والعيون. ارتجفت يدُها. وقع الهاتف على الأرض...
في طريقها إلى المستشفى كان الصّوت لا يزال يضجُّ في أصول أذنيها: سيّدة هاجر.. معك أبو علي من مؤسسة الجرحى. لقد أصيب زوجك جواد منذ أيام واليوم تمّ إحضاره إلى مستشفى...
* في وادٍ غير ذي زرع
لم تعد تسمع شيئاً بعد هذه الكلمات كمن صُمّت أذناه وقد سقطت قذيفةٌ بالقرب منه.
وصلت غارقةً بدموعها.. تلقّتها الممرضة محاولةً أن تضمّها وتمنعها من دخول غرفة العمليات. لكنّها دخلت في لحظة كان الطبيب يغمض عيني جواد وقد بذل كل ما باستطاعته.
لم تعد تشعر بقدميها. شهقت ووضعت يدها على بطنها وكأنّ هناك قلباً جديداً انتفض في مكانه.
اقتربت من السرير. وقفت بقربه. أمسكت يده وقالت جملةً ردّدتها عشرات المرّات بانتظار عودته:
"جواد حبيبي سوف تصبح أباً".
قالت وهي تشعر أنها وابنها وحيدان في وادٍ غير ذي زرع...
بعد حوالي ثمانية أشهر عادت هاجر إلى المستشفى نفسها حيث ولد جواد...