مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

لبس السواد

الشيخ محمود كرنيب‏


يلفت النظر في مواسم عاشوراء الانتشار الواسع للسواد وتغليبه، ليس فقط على صعيد الرايات وفي أماكن إقامة المآتم الحسينية بل في اللباس حتى أصبح لدى كثير من التجار موسماً لبيع وترويج الأسود من الأزياء والملابس. وهذا بحد ذاته يعد أمراً إيجابياً من حيث كونه يكشف عن انتشار حالة المواساة لأهل البيت عليهم السلام والحزن على مصاب سيد الشهداء. والسؤال هل إن لبس السواد في عاشوراء وأيام محرم أمر مشروع أم لا؟

* مشروعية لبس السواد:
بالنظر إلى المأثور من سنّة الرسول صلى الله عليه وآله وأهل بيته عليهم السلام نرى في غالبها نهياً عن لبس السواد مطلقاً كما في قول أمير المؤمنين عليه السلام (1): "لا تلبسوا السواد فإنه لباس فرعون". وربما استدل البعض بأمثال هذه الرواية على كراهة لبس السواد مطلقاً وفي جميع الأحوال ولم يستثنِ إلا ما كان للتقية بل حمل بعض الروايات المجوزة للبس السواد على التقية، باعتبارها لباس فرعون تارة ولباس أهل النار أخرى. والناظر في التاريخ يرى أن بني أمية مثلاً كانوا يكرهون لبس السواد فيما كان بنو العباس يحبونه وقد جعلوه شعاراً لهم. ففي مستدرك الوسائل للميرزا النوري قال: "فأمر أبو مسلم غلامه أرقم أن يتحول بكل لون من الثياب فلما لبس السواد قال: معه هيبة، فاختاره خلافاً لبني أمية وهيبة للناظر، وكانوا يقولون: هذا السواد حداد على آل محمد عليهم السلام، وشهداء كربلاء وزيد ويحيى"(2).

* هل لبس السواد مكروه مطلقاً أم ماذا؟
لقد أورد الفقهاء كراهة لبس السواد في موارد منها: في لباس المصلي وثوبي المحرم بل بعضهم كرهه مطلقاً لعموم الروايات وأخرج بعضهم بعض المصاديق من تحت عنوان الكراهة بل ربما ذهب بعضهم إلى حرمته في بعض الموارد كمثل ثوبي الإحرام. إلا أن الأغلب حمله على الكراهة بتفصيل بين الإطلاق وبعض الموارد وربما ذهب بعضهم إلى حرمته في بعض لكن بعض الفقهاء، وهم كثرة حملوا كراهة لبس السواد فيما لو كانت شعاراً للظالمين ولذا فالرواية الآنفة الذكر عن أمير المؤمنين عللت النهي عن لبس السواد بكونه لباس فرعون. كما أن النهي عن لبس السواد هو مصداق من مصاديق النهي عن عموم التشبه بالظالمين ففي وسائل الشيعة للحر العاملي وبإسناده عن إسماعيل بن مسلم عن الصادق عليه السلام قال: إنه أوحى اللَّه إلى نبي من أنبيائه قل للمؤمنين: لا تلبسوا لباس أعدائي، ولا تطعموا مطاعم أعدائي، ولا تسلكوا مسالك أعدائي فتكونوا أعدائي كما هم أعدائي"(3).

بل إن بني العباس الذين هم أشد من ظلم آل البيت عليهم السلام جعلوا السواد شعاراً لهم لأحد أمرين أو لكليهما الأول للإيحاء بأنهم هم المقصودون بالروايات التي تتحدث عن رايات المشرق وخراسان السوداء من جهة ومن جهة أخرى لتثبيت كونهم إنما ثاروا ثأراً لدماء الحسين عليه السلام وأضافوا إلى السواد شعار يا لثارات الحسين فيما هو مروي عنهم. وقد أكدت الروايات أن السواد كان شعار بني العباس ففي مصباح الفقيه روى أن جبرئيل عليه السلام هبط على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله في قباء أسود من منطقة فيها خنجر فقال يا جبرئيل ما هذا فقال زي ولد عمك العباس يا محمد ويل لولدك من ولد عمل العباس"(4). ولذا فقد "قيدها بعضهم إذا اتخذ السواد شعاراً كبني العباس لا فيما إذا لبس السواد صدفة أو حزناً على ميت أو لجمال فيه وهيبة أحياناً وليس بعيداً..."(5) وبالتالي فقد حمله البعض على الكراهة بقيد كونه شعاراً للظالمين..

* جواز لبس السواد مطلقاً:
ولذا فقد أوردوا روايات تدل على أنه حتى في زمن بني العباس كان أئمة أهل البيت يلبسون السواد ففي علل الشرائع للشيخ الصدوق: بسند عن داود الزفى قال: كانت الشيعة تسأل أبا عبد اللَّه عليه السلام عن لبس السواد، قال: فوجدناه قاعداً عليه جبة سوداء وقلنسوة سوداء وخف أسود مبطن بسواد قال ثم فتق ناحية منه وقال أما إن قطنه أسود وأخرج منه قطناً أسوداً ثم قال بيض قلبك والبس ما شئت(6). وربما حمل البعض هذه الرواية على الكراهة بعد عطفها على أخرى: رد عن حذيفة بن منصور أنه قال كنت عند أبي عبد اللَّه عليه السلام بالحيرة فأتاه رسول أبي العباس يدعوه فدعا بممطر أحد وجهيه أسود والآخر أبيض فلبسه ثم قال عليه السلام: أما أني ألبسه وأنا اعلم أنه من لباس أهل النار (7) بل في نفس المصدر نقل عن ابن بابويه حملها على التقية.

وكيف كان فإن الرواية الأولى أدل على الجواز الذي لا ينافي الحمل على الكراهة ذلك أن الإمام وإن اضطر إلى التقية في ظاهر الثوب فإنه غير مضطر للمبالغة إلى درجة جعل باطن ما يلبس أسوداً خصوصاً فيما لو عطفنا على الرواية الأولى هذه الرواية التي تكشف أنه اتّقي في ظاهر الثوب وأما الباطن فبقي أبيض. وفي الروايات ما يدل على الجواز مطلقاً خصوصاً إذا كانت التقية تقتضي عكس ذلك كما في زمان بني أمية فقد روى بعض أهل زمان الإمام السجاد علي بن الحسين عليهما السلام قال: رأيت علي بن الحسين عليهما السلام وعليه دراعة سوداء وطيلسان أزرق"(8).

* هل السواد لباس حزن:
وربما يستدل له لاستحباب لبس السواد بأنه لباس الحزن ومن الثابت استحباب اظهار الحزن في عاشوراء ومحرم وما يدل على كون الأسود لباس حزن ما ذكرناه عن أبي مسلم حيث قال: "هذا السواد حداد على آل محمد عليهم السلام وشهداء كربلاء وزيد ويحيى الذي يثبت أن السواد ثابت حتى في ذلك الزمن لوناً ولباساً للحداد. وما روي من أنه: "قيل لراهب رُائي عليه مدرعة شعر سوداء ما الذي حملك على لبس السواد فقال هو لباس المحزونين وأنا أكبرهم فقيل له: ومن أي شي‏ء أنت محزون؟ قال: لأني أصبت في نفسي، وذلك أني قتلتها في معركة الذنوب، فأنا حزين عليها..." أضف إلى أن السيرة القائمة في هذا العصر ليس فقط عند المسلمين بل عند أغلب شعوب الأرض في لبس السواد حداداً وحزناً مع ما روي ينكشف أنها متصلة بزمن المعصومين عليهم السلام كشعار ولم ينهوا عنه بل سيأتيك ما يدل على أنهم أقروه.

* لبس السواد حزناً على الحسين عليه السلام روائياً وفتوائياً:
فقد ورد في استحباب الحزن على الحسين عن أهل البيت ما نصه: إن ملكاً من ملائكة الفردوس الأعلى نزل على البحر ونشر أجنحته عليها، ثم صاح صيحة وقال: يا أهل البحار البسوا أثواب الحزن فإن فرخ الرسول مذبوح"(9) وفهم الميرزا النوري منها عدم كراهة لبس السواد. ونقل المحقق البحراني في الحدائق الناضرة مؤيداً استثناء لبس السواد في مأتم الحسين عليه السلام "ما رواه شيخنا المجلسي قدس سره عن البرقي في كتاب المحاسن أنه روي عن عمر بن زين العابدين عليه السلام أنه قال: "لما قتل جدي الحسين المظلوم الشهيد لبس نساء بني هاشم في مأتمه ثياب السواد ولم يغيرنها في حر أو برد وكان الإمام زين العابدين عليه السلام يصنع لهن الطعام في المأتم"، والحديث منقول من كتاب جلاء العيون بالفارسية ولكن هذا حاصل ترجمته"(10).

وهذه الرواية إضافة إلى دلالتها على مشروعية لبس السواد بل استحبابه في عاشوراء تدل على أمور أخرى منها استحباب إقامة المأتم والإطعام والقيام بخدمة مقيمي مأتم عزاء أبي عبد اللَّه الحسين عليه السلام حيث كان الإمام السجاد عليه السلام شخصياً يقوم بهذه الخدمة وكفى بذلك مقاماً لمقيمي المآتم. وفي الفتاوى نرى ما يلي إضافة إلى الروايات الآنفة الذكر أن من الثابت استحباب مؤاساة أهل البيت مطلقاً بحزنهم وفرحهم لعموم ما دل على ذلك ولاستحباب التأسي بهم فقد جاء في الروايات ما دل بالخصوص على ذلك في محرم فقد ورد أن بعض الأئمة عليهم السلام كانت أيام محرم أيام حزنه وعزائه ومصابه ونحن مأمورون باتخاذهم أسوة مطلقاً.

ولذا فإن الفقهاء وإن ناقشوا في أصل مشروعية لبس السواد إلا أن هناك ما يشبه الاتفاق على جوازه بل استحبابه من ذلك في محرم وعاشوراء حزناً على مصاب سيد الشهداء وإليك ما أورده بعضهم: عن شرائع الإسلام للمحقق الحلي: واستثنى بعضهم ما لبسه للحسين عليه السلام فإنه لا يكره، بل يرجح لغلبة جانب تعظيم شعائر اللَّه على ذلك، مضافاً إلى روايات متضافرة في موارد مختلفة يستفاد منها ذلك"(11) وأيده بقوله: "وهو في محله"(12). وفي الحدائق الناضرة للمحقق البحراني: "أقول: لا يبعد استثناء لبس السواد في مأتم الحسين عليه السلام من هذه الأخبار لما استفاضت به الأخبار من الأمر بإظهار شعائر الأحزان"(13).

* خاتمة:
مما تقدم يظهر أن موضوع لبس السواد مواساة لأهل البيت عليهم السلام وحزناً على مصاب سيد الشهداء بما له من هذا الانتشار ليس عادة عفوية بل هو استنان بسنّة أهل البيت ويستقي منهم مشروعيته وهو صدى واستجابة لنداءاتهم عليهم السلام في إقامة عزاء الإمام الحسين عليه السلام وإظهار الحزن على ما اقترف بحق أهل البيت في العاشر من المحرم سنة 61 للهجرة ولقد أصبح من الشهرة حكم لبس السواد بحيث لا يناقش فيه أحد. وآخر دعوانا أن الحمد للَّه رب العالمين‏


(1) جواهر الكلام ج‏81 ص‏424.
(2)مستدرك الوسائل ج‏3 ص‏328.
(3) وسائل الشيعة ج‏4 ص‏385.
(4) مصباح الفقيه ج‏2 ق‏1 ص‏424.
(5) شرائع الإسلام المحقق الحلي ج‏1 ص‏56.
(6) علل الشرائع ج‏2 ص‏347.
(7) منتهى المطلب ط ق العلامة الحلي ج‏1 ص‏232.
(8) الكافي الكليني ج‏6 ص‏449.
(9) مستدرك الوسائل ج‏3 ص‏327.
(10) الحدائق الناضرة البحراني ج‏7 ص‏118.
(11) و(12) شرائع الإسلام الحلي ج‏1 ص‏56.
(13) الحدائق الناضرة ج‏7 ص‏118.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع