مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

تضحية المجتمع

الشيخ خضر الديراني


التضحية مفهوم يعبر بمعنى ما عن عدد من الفضائل والمكارم، كالإنفاق والبذل والعطاء والجهاد والهجرة في سبيل اللَّه والشهادة والفداء و... بحيث يصبح إطلاق صفة المضحي على كل من يتحلى بهذه الفضائل. وللتضحية مراتب أعلاها أن يضحي الإنسان بنفسه في سبيل اللَّه وهو قول النبي صلى الله عليه وآله فوق كل ذي بر بر حتى يقتل الرجل في سبيل اللَّه فليس فوقه بر. لأنه أعلى المراتب الممكنة المتصورة في حق البشر.

وقد جعلها اللَّه الطريق الأوحد للحفاظ على العزة والكرامة والحرية والاستقلال للأفراد والجماعات على حد سواء. ولذلك نجد الإسلام يحث أتباعه عليها يقول تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ فاللَّه تعالى يحذر عباده من الانجرار خلف الدنيا والشهوات والتعلق بغير اللَّه عز وجل لأن ذلك سيفقدهم أعز ما أعطوه بعد العقل وهو الحرية والاختيار. وقد وصف اللَّه المجاهدين بأموالهم وأنفسهم والمهاجرين في سبيل اللَّه بأنهم أعظم ﴿الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ. بل أن ما ورد في السنة النبوية الشريفة وفي كلام أهل بيت النبوة عليهم السلام قد ربط بين الحرية والاستقلال للأفراد والجماعات وبين التضحية بكل أشكالها وألوانها بشكل مباشر، فلا يمكن الحصول على الحرية والاستقلال من دون التضحية وكذلك لا يمكن المحافظة عليها بلا تضحية.

جاء رجل إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وآله فقال دلني على عمل يعدل الجهاد قال لا أجده. وقد عبر علي بن أبي طالب عليه السلام عن هذه الحقيقة خير تعبير في خطبة الجهاد "أما بعد فإن الجهاد باب من أبواب الجنة فتحه اللَّه لخاصة أوليائه وهو لباس التقوى ودرع اللَّه الحصينة وجنته الوثيقة فمن تركه رغبة عنه ألبسه اللَّه ثوب الذل وشمله البلاء، وديث بالصغار والقماءة... وأديل الحق منه بتضييع الجهاد... اغزوهم قبل أن يغزوكم فواللَّه ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا، فتواكلتم وتخاذلتم حتى شئت الغارات عليكم وملكت عليكم الأوطان". هذا الواقع تؤكده أيضاً سنن التاريخ حيث لا نجد أمة أو فرداً حافظ على حريته واستقلاله وكرامته وكان ذا شأن من دون تضحية فعلاقة التضحية بالعزة والكرامة والحرية والاستقلال كعلاقة ذي الظل بظله بل هي أشبه بعلاقة المعلول بعلته. وهناك نماذج كثيرة خلدها التاريخ ورفعها إلى مقام المثال والقدوة للأمم والأجيال على مدى الزمن، وفي مقدمتها الأنبياء والرسل عليهم السلام. فالتاريخ يحدثنا عن إبراهيم الخليل عليه السلام كفرد وفيما بعد كأسرة الذي يمثل أحد أهم نماذج التحرر الإنساني في بحثه عن اللَّه عز وجل ومن ثم في تحمله لضريبة الحرية التي أبى التخلي عنها هو وعائلته التي هي الانفصال عن العائلة ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ، من دون تأفف أو ضجر مسلمين أمورهم إلى اللَّه عز وجل.

وقد ازدادت هذه الأسرة شموخاً عندما وصل حد العطاء والبذل إلى التضحية بالنفس والولد ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ، وكذلك في مواجهته مع النمرود وزبانيته الذين أضرموا ناراً عظيمة ليطفئوا بها نور اللَّه فأبى اللَّه إلا أن يتم نوره ولو كره المشركون والكافرون فـ﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ.

لذلك خُص إبراهيم وعائلته بمجموعة كرامات منها جعل النبوة في ذريته، والإيمان باللَّه تعالى لا يكتمل دون الإيمان به ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ، واستجاب له دعاءه ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ...، وجعله اللَّه من المصطفين ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴿وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وقال تعالى عنه: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ ، وأنزل في القرآن سورة باسمه وحوّل اللَّه عز وجل الكثير من نضالات وتضحيات هذه الأسرة إلى سنن وآداب ومناسك في الرسالات السماوية اللاحقة أبرزها فريضة الحج التي تعبر بكل تفاصيلها وآدابها ومناسكها عن أفعال وأعمال قام بها إبراهيم وزوجته وولدهما عليهم السلام. علماً أن روح فريضة الحج التضحية في سبيل اللَّه عز وجل. بيد أن النموذج الأعظم والأكمل من نماذج التضحية والفداء هو نموذج أبي عبد اللَّه الحسين بن علي بن أبي طالب سبط رسول اللَّه صلى الله عليه وآله. فتضحياته الشريفة عام 61 للهجرة في كربلاء من أرض العراق التي واجه بها الانحراف والظلم والطغيان، هي التي حفظت الرسالة من التشوه وأعطتها الحصانة لآتي الأيام من هذه الإمكانية، ولذلك تحولت إلى قدوة تحتذى منذ ذلك التاريخ، وقلما نجد في التاريخ الإسلامي دولة أو جماعة استطاعت أن تحقق نصراً على عدو أو أن تأخذ حقها من غاصب أو أن تنتصر في معركة دون أن تستلهم من كربلاء العزم والقوة والإرادة على الجهاد والتضحية والفداء.

وقد حمل القرن الماضي إلى العالم الإسلامي بشارتين سارتين هما انتصار الثورة الإسلامية المباركة في إيران بقيادة الإمام الخميني قدس سره الذي ضحى شعبها بالغالي والنفيس حتى وصل إلى شاطئ الأمان وما زال يحافظ عليها وعلى مكتسباتها، مستلهمين القوة والعزم والثبات من كربلاء أبي عبد اللَّه عليه السلام. والبشرى الثانية هي الانتصار المدوي الذي يعتبر سابقة في تاريخ الصراع بين الأمة وعدوها إسرائيل للمقاومة الإسلامية في لبنان ولا أعتقد أن هذا الانتصار يحتاج إلى كثير استدلال على حجم التضحيات التي بدّلت من أجله وما زالت للحفاظ عليه، وكذلك علاقة هذا الانتصار بثورة كربلاء وقائدها الحسين بن علي وأصحابه صلوات اللَّه عليهم.

أمام هذا الواقع المدعم بالشواهد والأدلة لا يسع الإنسان إلا أن يقر بأن تضحية الأمم والمجتمعات مساوقة لعزتها وحريتها واستقلالها، والعكس بالعكس فالأمة التي تتخلى عن التضحية والفداء والجهاد والشهادة هي أمة لن تحصد سوى الذل والضعف والهوان والاحتلال والتشريد وعالمنا العربي الإسلامي اليوم هو أصدق دليل وشاهد على هذه الحقيقة، فبضعة ملايين من اليهود أذلوا مئات الملايين من العرب والمسلمين بينما بضع عشرات من المؤمنين في لبنان عندما حملوا قوة وإرادة التضحية والفداء والشهادة في سبيل اللَّه نصرهم اللَّه تأكيداً لسنته في خلقه ﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع