مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

قصة العدد: أسيرُ الغربة...

نسرين إدريس‏


أقفل سماعة الهاتف بهدوء، وراح ينفث سيجارته وهو يقترب رويداً رويداً من الشرفة لتسافر نظراته بين أزقة وأبنية هذه المدينة التي سرق ضجيجها عمره الذي نما بين أوراق الكتب والدفاتر المتراكمة على مكتبه كهمومٍ يرزحُ فؤاده تحتها بعد أن كانت مُنيته وحبه... ما الذي تغير؟!

كلما نظر إلى نفسه في المرآة أشاح بوجهه عنها. هل يصل الإنسان إلى مرحلة يخافُ فيها النظر إلى نفسه! يخشى رؤية ما وصل إليه في زمنٍ تُديره شريعة الغاب المزينة بالحضارة و"الانفتاح"! إنه متعبْ جداً من كل شي‏ءٍ، حتى من صديقه الذي اتصل به قبل قليل ليبلغه أن "المداراة نصف الدين"، فوجد نفسه منقاداً للعبة "الفوارق العشر" بين المدارة والنفاق! "النفاق" الأفعى التي تلتهم طهارة النفوس كما تلتهم النيران سيجارته التي يتحول طعمها المر إلى دخان يرتسم أمامه بضبابية رمادية تذكّره بما لم يستطعْ حقيقةً أن ينساه، فما حصل معه في ذلك اليوم لا يُنسى؛ عندما احتدم النقاشُ بينه وبين زملائه في العمل، لم يستطع أن يفهم حينها (المصلحة العُليا) التي تحكم تغيير مبدأ أو قرار! بحثَ في كل الأوراق، وراجع كل المواقف، واستفسر من عدة أصدقاء، فلم يجد "سبباً وجيهاً" يدعوه للانضمام إلى ائتلاف زملائه الذين اتخذوا ما يُسمى المداراة حفاظاً على مصالح، للأسف، شخصية!

لماذا المصلحة لا تحتم علينا احترام مبادئنا وقيمنا ومشاعر الناس الذين يؤمنون بنا... لماذا لا نوضح لهم الحقيقة عوض اختلاق تبريرات لا يرضاها اللَّه ولن يصدقها الناس! فكان لا بدّ أن يخسر مقابل موقفه بعض الأشخاص أو ربما يكسب عداوتهم لرفضه التجلبب بالمداراة التي أرادوها كما تناسبهم.

تصاعد رنينُ الهاتف وهو يسمعه بلامبالاة ويتابع تحديقه بالأبنية، وقد مرّ بخاطره طيف أمه وهي تعجنُ الطحين لتخبز لهم أرغفة الفقراء اللذيذة، كان دائماً يجلس أمامها ليراقبها كيف تقلبُ العجين بيديها القويتين، وتصب فوقه بين فينة وأخرى القليل من المياه ليزداد طرواة، كلما نظر إليها شعر أنها لا تهيى‏ء الخبز فحسب، بل كانت تضع كل مشاعرها الرقيقة والجميلة في ذلك الوعاء ليصبح طعمه مفعماً بالاطمئنان... ويصر على الاستيقاظ معها قبل طلوع الفجر ليساعدها في إشعال الموقد خلف منزلهم الذي نبتت الأعشاب بين تشققات حيطانه القديمة، ويحمل في يده حزمة من البلاَّن والحطب ليغذي بطن الموقد، وسرعان ما تناوله أمه رغيفاً من نصيبه... كانت دائماً تقول له: "الحقيقة مُرَّة، ولكنها أفضل بكثير من الكذب الجميل... عش حياتك ببساطة وطبيعية ولكن بحبّ، إن الطحين الممزوج بالماء حتماً سيُنتج رغيفاً، ولكن إذا مزجنا الطحين مع الماء بحبٍّ وقناعة فإن الأرغفة سيكون طعمها مختلفاً؛ ذلك أن القلوب وحدها تشعرُ بحقيقة الأمور...  ظاهرياً الخبز يبقى خبزاً ولكن الفقراء يسعدون بالرغيف لأن اللَّه منَّ به عليهم، والأغنياء لا يشبعون من الموائد لأنّ الدنيا وهبتها لهم... كن مع اللَّه حيثما أرادك أن تكون ولا تخف"...

لم ينسَ أبداً درس أمه، وسعى بكل جهده أن يكون رجلاً يحملُ قدراً عالياً من الإنسان الملتزم، وأن يكرّس نفسه للآخرين، فإن اللَّه تعالى إذا ما أحب عبداً سيَّر حوائج الناس إليه، لكن ما لم يخطر على باله في يوم من الأيام، أن تتحول خدمة الناس لبعضها ذريعة تحصدُ المكاسب الدنيوية ويحكم العلاقة بين الأفراد ميزان المصلحةِ! إنها الدنيا التي لا تنتجُ سوى الخبز ليحيا الإنسان! فما الذي تغيّر؟! الدين؟ الناس؟ أم الدنيا؟!! عندما يرسل تنهدات الحنين يعود إلى ذلك المكان، مكانه الحقيقي الوحيد، الذي مذ غادره انسلخ عن نفسه، وصار أسيراً للغربة، وليس للغربة حدود، إنها امتداد للوحشة القابعة في النفوس، إنها العنكبوت الذي يبني بيته على خلايا الروح حتى يصبح رداءها...

وليس للغربة وجهة، فكل طرقاتها تؤدي إلى مغارة الوحدة... هي التمرد الرافض لكل ما يمكن أن يُفرض على المرء ولا يقبله دينه ووجدانه وعقله... وماذا يُجدي السفر في بحورٍ أمواجها تتلاطم كخفافيش ليلٍ مرعبة إن كانت النهاية في قعرِ البحار بين حيتانٍ كبيرها يأكل صغيرها ليحيا؟! وماذا يمكن أن يتغير في حياة الإنسان إذا بقي، رغم غربته، ليدافع عن آرائه والمفاهيم التي يؤمن بها؟! هكذا هي الحياة صراع بين ما هو موجود وما يجب أن يكون، وليس ثمة خيار، فيجب السعي دائماً لتحقيق ما يجب أن يكون...

عاد مسرعاً إلى الداخل وراح يبحثُ بين قصاصات الأوراق عن شي‏ءٍ ما، كانت عيناه تلتهم الكلمات ويده ترمي الأوراق واحدةٍ تلو الأخرى، إلى أن استقرت ورقة بيده وتدانت نظراته من جملةٍ جعلته يضغط على الورقة لتصبح بين أصابعه كرة غير متساوية الأطراف... ثم حمل قلمه وكتب على ورقة صغيرة: "الساكتُ عن الحق شيطان أخرس"، فمن السهل جداً اختلاق الأعذار لجميع تصرفاتنا بناءً لرغباتٍ تدفعنا لإرضاء ذاتنا الدنيوية. ولكن يبقى السؤال، ما هو الشي‏ء الذي يستحق أن نبيع لأجله روحنا بأبخس الأثمان؟!".

أغلق دفتره بهدوء، وقام من خلف مكتبه تاركاً من جديد رنين هاتفه يتصاعد مستمراً، غير آبهٍ بشي‏ءٍ خِلا فتح باب الشرفة والوقوف لاستنشاق القليل من الهواء... كانت السماء صافية وأشعة الشمس لطيفة، وهو يبتسم بسخريةٍ من وحدته المتلاشية أمام يقين رضا اللَّه: "إلهي ماذا وجد من فقدك؟ وماذا فقد من وجدك؟!"

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع