حسن زعرور
إن مشكلة سوء الفهم أقله لنا كعرب، مردها التعبئة الإعلامية التي تصور المرحلة بالنسبة للعدو الصهيوني بأنها نهاية صراع، مع أنه في الحقيقة لم يزل في الطور الأول منه، وإنما هو مجرد تغيير تكتيكي لدى القيادة الحاكمة في الكيان الإسرائيلي الغاصب والتي ليست معنية بالمطلق بالأشخاص سواء كان دايان أو نتنياهو أو شارون، وهؤلاء قد يسهمون في تأثيرات حركية مفصلية مساعدة، للقيادة الحقيقية الحاكمة، غير أنهم لا يستطيعون الخروج عن خططها الإستراتيجية.
إن تكوين الشخصية اليهودية ونظام وجود الدولة العبرية تجعل من المستحيل قيام سلام بين العرب وإسرائيل، ولو أراد العرب، وعلينا هنا أن نقف ملياً، عند سلسلة التراجعات العربية منذ عام 1948 وحتى اليوم، كنقاط مقارنة بين الشخصية العربية الضعيفة والمفككة، والشخصية الإسرائيلية التي لم تقدم أي تنازل يمكن أخذه بالحسبان، فالذات اليهودية معبأة منذ قيام الكيان الإسرائيلي الغاصب بمفاهيم محددة، تتعلق بالوجود الإسرائيلي أو اللا وجود، أما العرب "فعليهم إما أن يكونوا يهوداً متهودين أو يرحلوا"(1) إن عبارة "حصّنوا مواقعكم في الخلف"(2) لا تختص بالجيش الإسرائيلي وحده بل بكامل الشعب الإسرائيلي لأنه يعتبر أن بقاءه في هذه الأرض مرهون بقدرته العسكرية، وهذه الثقافة العسكرية لا يمكن احتواؤها حتى ولا على يد حركة السلام الآن والتي إنما هي ظلَّ مخابراتي إسرائيلي للضغط على الساسة في ما يسمى بإسرائيل ليس إلاَّ. إن إسرائيل لم تستكمل بعد مقومات دولتها، غير أن حاجات اقتصادها بعد توقف التعويضات الألمانية والبطالة المتصاعدة في أوروبا، وأميركا وحاجة إسرائيل الغاصبة إلى الأسواق التجارية، لتسمح بتدوير المال اليهودي في العالم العربي تدفعها لإتخاذ هذا الموقف الذي نراه تحت حجة السلام، لقد كان دعاة التنوير اليهودي (المكيليم) أول من نادى بإمكانية دمج اليهود مع غيرهم، غير أن "الحسيدية" "والربانيم" أوجدوا صيغة القومية اليهودية، فقضوا على إمكانية إحداث أي تغيير، ليس في المجتمع الإسرائيلي وحده، بل في الفكر اليهودي كله، والقيادة الحالية لدولة إسرائيل الغاصبة تتحرك بجمع المنحيين معاً بحسب مصالحها، وهو ما يفسر لنا أسباب تحول القادة العسكريين أصحاب المذابح المشهورة، إلى حمائم سلام مع العرب، لأن القيادة العليا للدولة العبرية الصهيونية، هي التي تملي خطوط الحركة السياسية، بحسب حاجتها ومصلحتها، فمن هي هذه القيادة؟
* النظام السياسي للحكم
تشكل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية المرتكز الأساسي للمجتمع الإسرائيلي باتجاهاته كافة، ديمقراطية وإمبراطورية وشيوعية، ومنذ حرب 67 أصبح القادة العسكريون، القاعدة التي ينطلق منها الأفراد لاحتلال مراكز القيادة السياسية والإدارية العليا، أو ما يعرف "بمركزية القرار" بهدف خلق نظام إداري صارم في العمالة والعلاقات العامة والإدارة، ولأن القوة العسكرية مسؤولة وبأعلى مستوى عن الأمن القومي للدولة أي فناء الدولة وبقاءها، فإن المخططات البعيدة المدى تعتبر "حدوداً للتعامل السياسي" بما في ذلك "المخططات الاجتماعية والاقتصادية"(3) ويشمل ذلك الدولة العبرية الغاصبة والأراضي المحتلة. كما أن النظام السياسي في ما يسمى إسرائيل يتألف من مجموعة متنوعة من الأحزاب والجماعات السياسية منها:
القوميون (يهود عرب) والمتدينون (أرثوذكس تقليديون دينيون) والاثنيون (اشكناز شرطيين) وايديولوجيون (اشتراكيون ليبراليون) يعطون القوة العسكرية سلطتها، وعليه فإن نفقات هذه القوة (50%) من ميزانية الدولة، لم تلق أي معارضة مع كل الحكومات أو الأحزاب، وهو أمر ملفت، ودليل على قدرة القوة الحاكمة وسلطتها، لذا جعلت من المجتمع الإسرائيلي الداعم لها دولة حامية عسكرية، أو دولة تحت السلاح(4)، وذلك يضفي عسكرة محدودة بمقاييس معينة للمؤسسات المدنية "واضفاء الطابع المدني (المظهري) على المؤسسة العسكرية"(5) وذلك يوضح كيفية فهم المجتمع الإسرائيلي للحروب على العرب وتسميتها "الحرب الضرورية" و"الحرب الوقائية"، ولما كانت حرب لبنان عام 82 خرجت عن هذا المفهوم، تم رفضها من قبل المجتمع، بدون رفض سلطة المؤسسة العسكرية، لقد صنعت الأحزاب الإسرائيلية الدولة، غير أنها أصبحت تبعية وبالعمق التعبوي والإداري والمالي للقيادة الفعلية في دولة إسرائيل المعتدية والمسماة "المركّب العسكري الصناعي".
* الحاكم الفعلي للكيان الغاصب
"المركب العسكري الصناعي"، أو كما يعرف في القيادة الإسرائيلية "المركّب" هو تعبير جامع ومرن للقيادات القوية وأطرافها الذين يديرون المصالح الاقتصادية والمؤسساتية والسياسية والإنفاق العسكري في الدولة، "مع الحفاظ على حال الحرب في المجتمع الإسرائيلي" واستمرار التسلح(6)، وتخضع قيادات هذا المركب إلى القلب أو ما يعرف "بالدائرة الداخلية" التي هي الحاكم الفعلي لدولة إسرائيل الغاصبة، وهذه مدعومة من الهيئات المشتركة من المحترفين العسكريين والصناعيين الكبار ومسؤولي التموين والتخزين، وتحتل العناصر التابعة لها، أهم "مراكز البنية السياسية للدولة"، وتمارس تأثيراتها بشكل كامل "لتحقيق مستويات عالية الاداء في الانفاق والاستعداد للحرب، وتوجيه سياسة الأمن القومي"(7)، ونلحظ ذلك في استمرار وتيرة التسلح العسكري رغم الحديث عن السلام، و"المركّب" يمسك بالدولة الإسرائيلية الغاصبة بشكل تام من خلال مرؤسيه الذين تم تعيينهم في التمثيل السياسي، والمصالح الإدارية والمالية، والسيطرة على الأمن، ومراكز صنع القرار في الدفاع والسياسة الخارجية، وحتى الاتجاهات الأخلاقية والاجتماعية والحزبية، ومجال الصناعات العسكرية، والصناعات الرديفة، وقد وضع لهؤلاء استراتيجية طويلة الأمد تتمحور حول:
أولاً: أن إسرائيل متورطة في صراع بقاء غير قابل لأي حل.
ثانياً: أمن إسرائيل لا يحتمل الخطر.
ثالثاً: على إسرائيل أن تعتمد على نفسها وبالأخص في مسألة الأمن القومي.
وعليه فإن القيادة السياسية التي وقعت اتفاقيات سلام مع مصر والأردن والفلسطينيين لم تحد من الانفاق العسكري ولم تقلل من القوى البشرية العسكرية ولم توقف عمليات الاغتيال حتى في الدول التي وقعت معها اتفاقيات سلام، لأن القيادة السياسية هذه غير قادرة على تخطي أوامر القلب المركب، والمس بمبدأ الأمن القومي لدولة إسرائيل.
* تكوين القلب (المركّب) العسكري
يتكون القلب من:
أ- القوات العسكرية بفروعها
ب- الاستخبارات.
ج- وزارة الدفاع.
د-الصناعات العسكرية.
ه- التمثيل السياسي.
كما تشمل عضويته كافة المؤسسات ذات المصالح المرتبطة معه من لجان الخدمات، وجماعات المحترفين، وهيئات الأمن المدني، والوحدات المضادة للإرهاب، والمتعهدين، ووكالات السلاح، والمنظمات الدينية والمدنية، لذا نلاحظ أن دعم القلب لأعضائه، أدى إلى تولي هؤلاء مراكز النخبة القيادية في الدولة، المراكز السياسية والتجارية ورئاسة الموساد، وقيادة البوليس، والحرس والإدارة المدنية، وإدارة الشركات الاستثمارية والتجارية، وفروع البنوك والكهرباء ومصافي النفط وشركات الطيران وصناعتها وصناعة محركات بيت شمس، ومدراء عامون مما يدل على مدى سلطة هذا القلب وقوته.
* تحت سلطة القلب "المركّب"
إن تأثير هذا القلب على بنية المجتمع الإسرائيلي تكاد تكون كاملة وموجهة، فعلى سبيل المثال، إن إدارة المدرعات في هيئة الإمداد التي طورت دبابات ميركافا، استخدمت لذلك أربعة آلاف عامل، و160 مصنعاً بعمالها، إضافة إلى 500 وحدة مدنية مواكبة للصناعات العسكرية، كما أن مؤسسة رافائيل العسكرية، تستخدم ماية وخمسين مصنعاً مدنياً بعمالها لصنع أنظمة السلاح الفرعي"(8).
وتحت إدارة "القلب" تحوّلت إسرائيل الغاصبة من دولة مستوردة للسلاح إلى دولة مصدرة، وتتم عملية تطوير السلاح لتسويقه في الحروب مع الفلسطينيين وبيعه لدول مشترية مثل زائير وهندوراس وأوغندا وكينيا، أو دول موالية مثل أثيوبيا أو دول متضامنة مثل تايوان والهند وتركيا، وعلينا هنا احتساب حجم اليد العاملة في هذا القطاع وتأثيرها السياسي. ونلاحظ أن رئاسات المؤسسات السياسية في الدولة، من الهرم وحتى القاعدة، كلهم من القيادات العسكرية التابعة للقلب، وعليه فإن قرار هؤلاء، يخضع لسلطة القلب المركّب، وهو الذي يحدد دور المؤسسات السياسية الحاكمة، فرئيس الوزراء والوزراء أو لجان الدفاع، تعبِّر عن سلطتها "المدنية" بإظهار الخطوط النهائية للهدف، وتكوين الظروف المؤاتية له مقابل الانتفاع، ويتولى القلب مساعدتها عن طريق:
1- تعبوية المجتمع الإسرائيلي حول رمز القوة اليهودية الحديثة.
2- إعطاء دور للأجهزة الأمنية لمراقبة والتأثير على القرار.
3- إخضاع البنيوية الدينية لسلطة القلب المركّب.
4- السيطرة على السلطة الاقتصادية وتوجيهها.
من هنا نجد أن مصلحة القلب المركّب والدولة العبرية، تتناقض كلياً مع مبدأ السلام، ويوضح بن غوريون نفسه هذه الاستراتيجية الدائمة بقوله "لقد اتسعت حدودنا وتضاعفت قوانا، وتتوارد علينا كل يوم قوى جديدة لذا ينبغي علينا خلال فترة الهدنة مع العرب أن نقوم بتنظيم الهجرة والاستيطان(9) ، وهو ما يتم حالياً، إذ نرى دولة إسرائيل المعادية تواكب الحديث مع العرب عن السلام، ببناء مستوطنات جديدة، وتفعيل قدرتها العسكرية، وغزو الأسواق العربية لتنشيط اقتصادها. لذلك فإن تحويل مجتمع بكامله كالمجتمع الإسرائيلي من حالة الحرب مع العرب إلى حالة سلام معهم هكذا وببساطة أمر لا يمكن القبول به لأي عاقل.
(1) الإيمان الديني وسياسة السلام ص210، الرابي يعقوب اريئيل.
(2) الإسرائيليون الجدد، ص14، يوسي ميلمان.
(3) الجنود والفلاحون البيروقراطيون، رومان كولكوفيتز.
(4) العسكريون والسياسة، أموى موتر، الحكومة والمعارضة لوكهام.
(5) القوات العسكرية الإسرائيلية، دان هوروفيتز.
(6) كيف تسيطر على العسكريين، جون غالبريت.
(7) المركّب الصناعي، ص3، ستيفن روزن وشارلز موسكاو.
(8) الصناعة العسكرية، ص355، إيفرون.
(9) الصهيونية بلا قناع، ص71، ايفان دونيف.