حوار: الشيخ إبراهيم حسن
هي العالمة غير المعلّمة، والفهيمة غير المفهّمة، ذات
القلب الصبور واللسان الشكور، وهي -مع ذلك- جبل الصبر وأمّ المصائب... هي سيّدتنا
زينب الحوراء عليها السلام التي حملت راية أخيها الإمام الحسين عليه السلام ناشرةً
رسالته في مختلف الأرجاء، فكانت نِعم القدوة والأسوة لكلّ البشر...
إلى دورها الرساليّ العظيم نتعرّف، وفي ثنايا كلماتها ومواقفها نقف ونستكشف،
لعلّنا من بحر عظمتها نرتشف، في لقاء مع سماحة السيّد علي الميالي، وكانت الأسئلة
الآتية:
*ما هو الدور الأبرز الذي اضطلعت به السيدة زينب عليها
السلام؟ وكيف تجسَّد هذا الدور من خلال كلماتها ومواقفها؟
إنّ دور الحوراء زينب عليها السلام يمكننا أن نكتشف حقيقته وعظمته عندما نطّلع على
حقيقة عظمة سيد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام وعلى حقيقة نهضته المباركة
وعظمتها. وبالتأكيد فإنّ معرفة هذه الحقائق تحتاج إلى موسوعات مفصّلة وكتب كثيرة،
لكنّ الذي يمكن قوله باختصار وبما يناسب الإجابة عن السؤال هو أنّ الإسلام المحمّدي
الإلهيّ قد عصفت به عاصفة سوداء تمثّلت بالحكم الأمويّ الذي كان في حقيقته عودةً
إلى الجاهلية القديمة؛ وذلك أنّ بني أميّة -ابتداءً من زعيمهم الأكبر أبي سفيان ثمّ
من بعده ولده معاوية- أظهروا الإسلام في عام الفتح مكرَهين بعد أن فتح الله على
نبيه، وقد أطلقهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في كلمته المعروفة "اذهبوا
فأنتم الطلقاء".
وكان عام الفتح في السنة الثامنة للهجرة المباركة. وفي السنة العاشرة التحق النبيّ
صلى الله عليه وآله وسلم بالرفيق الأعلى. وقد التفّ بنو أمية -بمؤامرة واضحة- على
الخلافة آنذاك، ليأخذوا موقعاً ريادياً في الأمّة الإسلامية وفي المواقع المتقدّمة
في الحكم، فاستقلّ معاوية في الشام التي صار يحكمها بجاهليّته القديمة. وحين قويت
شوكته المدعّمة بدهائه وبمجموعة المستشارين من أهل الكتاب والنفعيّين ممّن أظهروا
الإسلام -من أمثال عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة وزياد ابن أبيه وأمثالهم من
أركان حكمه- واستفحل أمره واستكملت مؤامرته بعد صفّين واستقلّ في الشام حاكماً حتّى
شهادة أمير المؤمنين عليه السلام ومن بعدها المؤامرة الكبرى على سبط رسول الله
الحسن الزكي عليه السلام؛ استقلّ معاوية استقلالاً تامّاً بالأمّة الإسلامية،
يحكمها بما يشاء وكيف يشاء، فكان مشروعه القضاء على الإسلام كتاباً وسنّة وسيرة
عطرة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وشواهد هذا الكلام مدوّنة وموثّقة لا
يسعها هذا الكلام المختصر. ويكفي القول إنّه ختم حياتة المشؤومة باستخلاف ولده
يزيد، الذي كان معروفاً للقاصي والداني من المسلمين ما كان عليه من الفِسق
والاستهتار. لقد كانت هذه الخطوة من معاوية عن سابق إصرار وتصميم وعلم أنّ ولده
يزيد سوف يفتك بالإسلام وبرسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وبالتالي سوف يتحقّق
لمعاوية ما كان يستهدفه من محو الإسلام وإعادة الجاهليّة التي هي دينه ودين أسلافه
بثوب جديد.
هذا -باختصار- هو المشروع الأمويّ الذي ما زلنا نعاني من آثاره إلى يومنا هذا،
متمثّلاً بما نشاهده من جاهلية تبنّت القتل وقطع الرؤوس وإشاعة الرعب في جميع بقاع
الأرض.
في مقابل هذا المشروع الأمويّ الجاهليّ الخبيث كان مشروع رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم ومشروع أهل البيت عليهم السلام الذي مثّله سيّد الشهداء عليه السلام
ليكون السدّ المنيع الذي يوقف تدفّق الخطر الأموي الجاهلي ويقف لهم بالمرصاد.
هذا هو مشروع الإمام الحسين عليه السلام وهذه حقيقته وهذا ثقله وأهمّيته. وبمقدار
حجم هذا المشروع كانت الحوراء زينب عليها السلام التي اصطحبها الإمام الحسين عليه
السلام معه من المدينة المنورة إلى كربلاء لتقوم من بعده بدور حماية الإنجاز العظيم
الذي مثّلته نهضته المباركة. ونحن نعتقد -من خلال الشواهد والأرقام وكلمات الحوراء
عليها السلام- أنّه لولا وجودها المقدّس وما قدّمت من دور وتكلّمت من كلام لاضمحلّت
الثورة الحسينية ولما بقي لها أثر، إلّا أنّ الله -سبحانه وتعالى- حفظ بها وبالإمام
زين العابدين عليهما السلام هذا الحدث الزلزال الذي بقي يتفجّر بوجه الظلمة والطغاة
عبر التاريخ. ويظهر هذا الدور بوضوحٍ وجلاء بمراجعة كلماتها ومواقفها في هذا
المجال، ومنها كلماتها:
1. في مجلس عبيد الله بن زياد في الكوفة.
2. في أهل الكوفة.
3. في خطبتها في مجلس يزيد في الشام.
والآثار المباركة لوجودها المقدّس في المدينة المنوّرة بعد رجوعها إليها(1).
* لماذا اختار الله امرأةً للقيام بهذا الدور؟
إذا تتبّعنا المواقف الرساليّة العامّة غير القتاليّة المذكورة في القرآن والسنّة
الشريفة، لا نجد أيّ فرق في الواجبات والمهامّ والمواقف بين الرجال والنساء؛ مثلاً
عندما نقرأ عن وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي هي أشرف الفرائض وأعزّها
نرى كيف يدمج الله تعالى بين المؤمنين والمؤمنات بما هما جهتان، وكيف يكمل كلٌّ
منهما الآخر ويسند كلٌّ منهما الآخر؛ ليقوما بدورهما الرساليّ المقدّس في إشاعة
المعروف والنهي عن المنكر؛ يقول تعالى:
﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ
بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ
الْمُنكَرِ﴾ (التوبة:71).
والخلاصة أنّ القاعدة الأساس التي قام عليها الدين هي عدم الفرق في وجوب حمل
المسؤوليات وأداء الواجبات بين الرجال والنساء. ويُضاف إلى ذلك ما ذكرناه في جواب
السؤال الأوّل، وهو حجم الحدث الذي مثّلته الثورة الحسينيّة المباركة وما يُنتظر
لها من عطاء على صعيد حاضر الأمّة ومستقبلها، وحجم دور الحوراء زينب عليها السلام
الذي هو الأنسب والأجدر والأقدر على وراثة هذه المسؤوليّة والنهوض بها والدفاع عنها
حتّى تؤتي أُكُلها.
* أين تكمُن عظمة الحوراء زينب عليها السلام وسموّ
مقامها؟
ترجع عظمة سيّدتنا زينب عليها السلام إلى كونها ابنة أمير المؤمنين وابنة فاطمة
عليهما السلام، وقد تربّت في حجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحجرهما، كما
عاشت مع الإمامين الحسنين سيدي شباب أهل الجنة، فعاشت مع الإمام الحسن عليه السلام
محنته وجهاده وصبره وكلّ آلامه، ثمّ عاشت بعد ذلك مع الإمام الحسين عليه السلام،
فكانت شريكته في نهضته كما أسلفنا في الجواب عن السؤال الأول.
من جهةٍ أخرى، تكمن عظمة السيدة زينب عليها السلام أيضاً في ما حملته من العلوم وما
قامت به من دور في حماية أعظم إنجاز قدّمته رسالات السماء وأنبياء الله وجدّها نبيّ
الإنسانية، هذا الإنجاز الذي حفظه الإمام الحسين عليه السلام بدمه، ولولا هذا
الإنجاز وما قدّمه الإمام الحسين عليه السلام لعادت الجاهلية بجميع تفاصيلها على يد
معاوية بن أبي سفيان ومعه الحزب الأمويّ المشرك.
* ألا يتنافى الدور الذي قامت به العقيلة مع الجوّ العامّ
المستفاد من الشريعة بما يخصّ عدم تكليف المرأة خارج بيتها؟
إنّ أول الكلام أن نقول: إنّ الاسلام لم يكلّف المرأة خارج بيتها؛ فعلى سبيل
المثال: المرأة التي لا كافل لها والتي تتوقّف معيشتها على خروجها لا يمنعها الشرع
من الخروج لإعالة نفسها ومَن تتكفل مِن أبنائها. وكذلك لم يمنع الإسلام المرأة من
الخروج في الشؤون والعلاقات الاجتماعيّة: كعيادة المرضى، والإحسان إلى الناس، وقضاء
حوائجهم؛ وكذلك لم يمنعها من الجهاد في سبيل الله في بعض الظروف التي تنحصر فيها
كثير من المسؤوليات بالمرأة: كالتمريض، وتقديم الدعم الغذائيّ في المعركة التي
يخوضها جند الإسلام في وجه الكفر والاعتداء.
أمّا دور الحوراء زينب عليها السلام فإنّ له خصوصيّته وأهمّيته وضرورته الخاصّة.
ومَن أقدر مِن الحوراء زينب عليها السلام على القيام بمثل دورها المقدّس الذي قامت
به؟
* كيف يمكن لنساء عصرنا أن يقتدين بالسيّدة زينب عليها
السلام في مواجهة التحدّيات المعاصرة؟
عندما نقول إنّ السيدة زينب عليها السلام قدوة، فهذا يعني أنّ على المؤمنات أن
يَسعيْن قدر الإمكان في اتّخاذها وأمَّها وجدَّتها خديجة (عليهنّ السلام) قدوةً لهن
في السلوك؛ إذ كنّ الأنموذج الأمثل في الحياة الزوجية وفي تكوين الأسرة الصالحة
وتربية الأبناء الصالحين والبنات الصالحات، ومنهنّ السيدة زينب عليها السلام التي
يجب على نسائنا المؤمنات الاقتداء بها في هذا الجانب.
من جانبٍ آخر، فقد كانت عليها السلام معلّمة لنساء قومها ومن عاصَرت من نساء الكوفة
والمدينة، فكانت تحدّث وتدرّس القرآن والسنّة الشريفة، وما كانت تكتم ما تحمل من
العلم؛ بل كانت تنفقه وتبثّه بين الناس. وفي هذا المجال كذلك يجب على النساء
المؤمنات أن يقتدين بها؛ بل إنّ كلّ حياتها قدوةٌ للرجال والنساء.
* هل يصلح أن تكون السيّدة زينب عليها السلام قدوةً
للرجال أيضاً؟ وكيف؟
السيدة زينب عليها السلام إنسانة جسّدت دين الله بجميع أبعاده الفكريّة والروحيّة
والعلميّة، فكانت الأنموذج الأصدق والقدوة في جميع سلوكها. وكونها قدوة لا يقتصر
على النساء؛ لأنّها مثال للشرع ومثال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولأبيها
أمير المؤمنين عليه السلام وأمّها وأخويها عليهم السلام لقوله تعالى:
﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ
آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي
الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ﴾
(التحريم11). فإذا كان الله تعالى
يضرب بآسية بنت مزاحم مثلاً للمؤمنين عامّة (رجالاً ونساءً)، دون أن يقتصر في ضربها
مثلاً للنساء دون الرجال، فلا شكّ في أنّ سيّدتنا الحوراء زينب عليها السلام -بما
جسّدته من الإيمان، والعمل، والجهاد، والصبر والتضحية بكلّ أشكالها وأبعادها- تشكّل
كذلك قدوةً للنساء وللرجال ولجميع فئات المجتمع، في السلوك وفي الأعمال العامّة
التي تشمل جميع مجالات الحياة...
(*) خطيب حسيني.
1- يمكن الاطلاع على كلماتها عليها السلام في كتاب (مقتل الحسين عليه السلام)،
السيد عبد الرزّاق المقرّم.