صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين آخر الكلام | الضيفُ السعيد الافتتاحية| الأمـومـــة... العمل الأرقى  الشيخ البهائيّ مهندسٌ مبدعٌ في العبادةِ... جمالٌ مع الخامنئي | نحو مجتمع قرآنيّ* اثنا عشر خليفة آخرهم المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف* أخلاقنا | اذكروا اللّه عند كلّ نعمة* مناسبة | الصيامُ تثبيتٌ للإخلاص

السعادة في المعرفة


الشيخ علي جابر


لا يختلف إثنان من الناس العقلاء حول أهمية العلم وفضله وميزته لوجود الإنسان وتأثيره في حياته. لا يستوي ﴿الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ، وعدم الاستواء هو في حقيقته التفاوت في شرافة الوجود وقدرته، وفي أثره في الحياة والدور الذي يمكن أن يضطلع به العالم دون الجاهل، والأهم من ذلك كله هو التفاوت في الحال والمصير. فطموح الإنسان على الدوام كان ولا يزال أن يحصل على أرقى درجات ومراتب السعادة ويجنب نفسه كل ألوان الألم والحرمان في حياته الدنيا، وفي الحياة الآخرة التي تمثل الحياة الحقيقة فهي ﴿الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (العنكبوت 64). وليست المعرفة حيادية أمام صناعة السعادة وتجنب الشقاء، بل لها الدور الحاسم في ذلك وهو ما سنحاول توضيحه.

* فضل المعرفة
لا نبالغ إذا قلنا إن المعرفة هي أهم فضيلة للنفس الإنسانية وبها تتميز وتسمو عن سائر الكائنات المادية. فعن أمير المؤمنين الإمام عليعليه السلام: "رأس الفضائل العلم، غاية الفضائل العلم". وحينما نعود إلى القرآن الكريم نجده حينما يتحدث عن منزلة المؤمنين يوم القيامة فإنه يصفها بالمنزلة الرفيعة والدرجة العالية، لكن أهل المعرفة والعلم أرفع بدرجات من عامة المؤمنين لما نالوه من حظ المعرفة وهو تفضيل من الله سبحانه، لكنه يكشف في نفس الوقت عن ميزة واقعية، لأن التفضيل الإلهي لا يقوم على الإعتبار بل على الحقيقة ونفس الأمر. قال تعالى في هذا الشأن: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ(المجادلة: 11) وهذا يعني أن فضيلة المعرفة بالمعنى الذي سيتضح فيما بعد، لا تَعْدِلُها فضيلة.

* من العلم نبدأ
وعندما نسأل أنفسنا عن السبل إلى تحصيل السعادة لوجودنا المؤقت في الدنيا والدائم في دار الآخرة، ومن أين تكون البداية؟ فالجواب: نبدأ من العلم والمعرفة. فالمعرفة تشكل الأساس الذي تعتمد عليه كل الفضائل في درجات التكامل في خطها التصاعدي، والتفسير المنطقي والوجداني لكل مظاهر الرفعة التي تحصل للإنسان. ولذلك قال الإمام الصادقعليه السلام: "العلم أصل كل حال سنيٍّ وكل منزلةٍ رفيعة". إن كل حركة وجهد نبذله في حياتنا تنعدم قيمته إذا لم يستند إلى المعرفة، بل قد لا ينتج العمل ولا تؤدي الحركة إلا إلى المشقة والعناء والنتائج السلبية. وهذه قاعدة عامة لا تشذ عنها حتى العبادة، بل تأتي كأبرز مصداق لها، فيتوهم الإنسان حينئذ أنه يأتي بالأعمال العظيمة التي تضمن له مصيره، ليكتشف بعد ذلك أنها لم تك شيئاً، إذا لم تترك أي أثر في مسلك حياته، ولا وزناً في ميزان حسناته، ويصور أمير المؤمنين عليه السلام هذه الحقيقة بقوله: "المتعبد على غير فقه كحمار الطاحونة يدور ولا يبرح". ومن المؤلم جداً أن يكتشف الإنسان نفسه كدابَّة الطواحين حين لا ينفعه علمه بذلك ولا يرى فرصة للتدارك.

* المعرفة الحقيقية
لكن أية معرفة هي التي توصل إلى السعادة وتؤثر في نيلها، خصوصاً وأن المعارف لدى الإنسانية باتت كثيرة ومتشعبة والإدعاءات حولها لا تعد ولا تحصى وكلٌّ يدَّعي الوصل بها؟ وهل كل من حصَّل علماً سمي عالماً تنطبق عليه أحكام العلماء حقيقةً فيكون من الذين أشار إليهم أهل البيت عليهم السلام وتحدث عنهم القرآن الكريم وشرّفهم وعظّمهم أم أن هناك معرفة محدّدة هي المعنية في ذلك الأثر. من الواضح أن القرآن الكريم يطرح (معرفة الله تعالى) وما يتعلق بها، كمحور أساسي للمعرفة الصحيحة التي لها الخصائص التي أشرنا إليها ويسعد بها الإنسان، وأن سائر المعارف هي معارف ثانوية وتفصيلية ترجع إلى المعرفة الأم. قال تعالى ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ آل عمران 18.

فقرن تعالى شهادته لنفسه ومعرفته بذاته ومعرفة الملائكة وشهادتهم بشهادة أولي العلم ومعرفتهم بتوحيده وبفعله وإدارته وعدله في كل خلقه وتشريعه لهم. وهذا المعنى نجده في ما روي عن الإمام موسى الكاظم عليه السلام: "وجدت علم الناس في أربع: أولها أن تعرف ربك، والثانية أن تعرف ما صنع بك، والثالثة أن تعرف ما أراد منك، والرابعة: أن تعرف ما يخرجك من دينك". والمعرفة هنا ليست فقط الإدراكات الذهنية والصور العقلية التي تحصل للإنسان عند تعقله بالأشياء، فإنها لا تعدو أن تكون مفاهيم مجرّدة لا تنال مبدأ هذا الإنسان وكل الموجودات، وإن نالت ما يتعلق بفعله وآثاره وما يرجع إليه، بل هي بالدرجة الأولى معرفة قلبية تورث اليقين في النفس فلا ترتاب فيما آمنت به، وهي ما يسمى بمعرفة المبدأ معرفة شهودية.

* المعرفة لا تنفك من العمل‏
إن المعرفة الحقة لا تنفك عن العمل، بل هي ملازمة له كما تلازم العلة معلوها. فهل نقبل مثلاً من عاقل يرى النار مشتعلة في مكان ومع ذلك يضع قدمه فيه؟ إنّ تركه لهذا الفعل هو بسبب معرفته باشتعال النار وحرارتها وهو تصرف لا ينفك عن العلم والمعرفة وإلا لم تكن هناك معرفة حقيقية كما لو كان يتوهم هذا الإنسان أن حرارة النار كحرارة الجو ليس إلا. ولذا قالوا إن من عرف حق المعرفة عمل، وعدم علمه حينئذ يكشف عن أن ما لديه ليس علماً حقيقياً. إن هذا ما يمكن استفادته من حديث أمير المؤمنين عليه السلام المروي عنه حيث يقول: "العلم مقرون بالعمل، فمن علم عمل، والعلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل عنه".

وهذا التلازم الذي يتحقق عند الإنسان بين علمه وعمله يمكِّنه من قطع طريق الحياة الموصول إلى الله سبحانه بخطى ثابتة ونفسٍ مطمئنة تنال سعادتها. وإن هذا التلازم كلما توقف واشتد وفّر للإنسان نوعاً من العصمة التي تمنعه من الوقوع في المخالفة والمعصية وتجنبه الشقاوة. وإن أرقى درجات المعرفة وأوثق عرى التلازم بينها وبين العمل هو ما عند النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة أهل البيت عليهم السلام، لذا كانوا أفضل الخلق وأشرفهم.

* ميراث العلم‏
من خصائص العلم الحقيقي أنه يؤثّر خشيةً في النفس وهو بدوره نابع من المعرفة القلبية النورانية التي تملأ الكيان، وتمثل حقيقة الإيمان عند الإنسان. وحينما يفقد هذه الخشية من المولى تعالى التي تحجزه رهبةً عن المعصية، فهو ليس بعالم مهما حوى من العلوم والفنون التي تمكِّنه من السيطرة على الطبيعة والأشياء. بل إن ما يُتوهم أنه علم ليس سوى معارف ظاهرية تشبه بظاهرها العلم الحقيقي وتخالفه في الجوهر. وقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "الخشية ميراث العلم، والعلم شعاع المعرفة وقلب الإيمان، ومن حُرِمَ الخَشية لا يكون عالِماً" وإن شقّ الشعور في متشابهات العلم. قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ (فاطر: 18). وقد بينت الآية الكريمة على نحو الحصر منشأ الخشية وهو العلم والمعرفة، فإن الإنسان لا يمكن أن يخشى ما يجهل، وفي المقابل فإنه كلما ازداد معرفة ازداد خشية. لكن هذه الخشية ليست ألماً، بل هي خضوع لمن إذا تعلق به القلب صار سعيداً لمعرفته بجماله وكماله.

* لذة المعرفة
ومن المهم في الختام أن نعرف أيضاً أن العلم بذاته كمال للنفس تشعر به، وتلتذ بإتصافها به. وكلما كان ما تعرفت عليه بعيداً عن الحسّ والأمور الظاهرة كلما كانت أسعد به لأنها وصلت إلى حقيقة غائبة عن النظر وهي التي سماها القرآن الكريم ب(الغيب) ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (البقرة: 2 3). إن الخير والسعادة التي يبحث عنها الإنسان تكمن في المعرفة وآثارها، وليس في التكاثر الذي يشغل الإنسان عن ربه وحينما سئل أمير المؤمنين عليه السلام عن الخير ما هو؟ أجاب: (ليس الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكن الخير أن يكثر عملك ويعظم حلمك وأن تباهي الناس بعبادة ربك..). فالسعادة مع المعرفة سعادتان: سعادة بالمعرفة ذاتها، وسعادة بآثارها في الحياة.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع