لقد غلب على الناس عند حضورهم مجالس الإمام الحسين
عليه السلام البكاء على ما حدث من قتل وجراح ودماء، وقطع الرؤوس، والأيدي، وعطش
الأطفال، وسبي النساء المخدرات. وغلب على القراء أيضاً السعي لإبكاء الناس من خلال
تفجيعهم بذكر أشد المصائب في حادثة كربلاء، واستدرار دموعهم من خلال تعظيم المصيبة.
إن هذا الأمر هو وجه من وجوه كربلاء، ولكنه قد يصل إلى مرحلة يفقد تأثيره، إلا إذا
جهد المستمع لإبكاء نفسه، والانسياق مع الجو العام المتأثر بتلك الفظائع. هناك وجه
آخر من وجوه كربلاء، بل هو الوجه الحقيقي، لأننا لو اقتصرنا على الوجه الأول،
لوجدنا كثيراً من الأمثلة قد تفوق في فظاعتها ما حدث للإمام الحسين عليه السلام، من
حيث أسلوب القتل، وكثرة من قتل، والظروف المرافقة له، التي تزيد في التأثير، من قتل
ولد بين يدي أبيه، أو بقر بطن امرأة، أو قتل الشيوخ وغير ذلك من الصور.
لكننا إذا نظرنا إلى الوجه الحقيقي للحدث الكربلائي، نجد أننا أمام شخصٍ هو إمام
للأمة، وصل إلى مرتبة الإمامة بعد أن بلغ أعلى المراتب في الأخلاق والإيمان
والتقوى، وعرف فيه الناس ذلك، وهو أحد الذين نزل فيهم قول اللَّه تعالى:
﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا
إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا
شُكُورًا إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا﴾
(سورة الإنسان: 8 - 10). وأحد الذين نزَّههم اللَّه بقوله عزّ وجلّ:
﴿... إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ
الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾
(سورة الأحزاب: 33)
وفي زيارتهم الجامعة
"إن ذُكِر الخير كنتم أوّله وأصله،
وفرعه ومأواه ومنتهاه".
وإنما قام بثورته من أجل الحق والعدل وللقضاء على الظلم
والباطل وقدّم تضحيات عظيمة. ولقد وفد إليه أشرف رجال الأمة وكرام قبائلها
وأقوامها، المعروفون بالتقوى والورع والزهد والخصال الكريمة، ولا يشك أحد في أن كل
واحد منهم هو سيد قومه واعبدهم، لما عرفوا في ثورة الإمام الحسين عليه السلام من
الحق، فكان أحدهم يضحي بكل ما لديه من أجل الوفود إلى الإمام عليه السلام، وحتى
عندما أذن لهم الإمام بالانصراف ليلة العاشر من المحرم، بكوا وأعلنوا جميعاً عن
حبِّهم للموت بين يديه، فكانوا أصحاب اليقين والاعتقاد الكامل، والنفوس الزكية
الطاهرة المليئة بالحب للَّه ولدينه، وأصحاب أفضل الخصال، فقاتلوا وصبروا
واستشهدوا.
لذلك عندما نبكي الإمام الحسين عليه السلام ... إنما نبكي الإيمان الذي قتل، والعدل
والتقوى والكمال وكرام الخصال والفضائل التي فقدت وماتت بقتلهم، والتي يعبر عنها
الإمام المهدي عجل الله فرجه في زيارة الناحية المنسوبة إليه: "لقد قتلوا بقتلك
الإسلام، وعطلوا السنن، وعطلوا الصلاة والصيام، ونقضوا السنن والأحكام، وهدموا
قواعد الإيمان، وحرّفوا آيات القرآن، ولجُّوا في البغي والعدوان... وفقد بفقدك
التكبير والتهليل والتحريم والتحليل والتنزيل والتأويل"... السلام عليك يا أبا عبد
اللَّه..