إعداد: د. حيدر خير الدين
عندما نستحضر كل السياسات والأساليب المضلّة التي أتبعها الأمويون في تحوير الرسالة
المحمدية من خلال الفتن التي أثاروها أيام ولاية الإمام علي عليه السلام وما تلتها
من أحداث استباحوا فيها المحرمات وتجرؤا خلالها على المقدسات، فكان سبّ أمير
المؤمنين عليه السلام على المنابر سُنّة ابتدعوها، والغدر بالمواثيق حيلة ابتكروها،
وقتل الإمام الحسن عليه السلام ريحانة رسول اللَّه صلى الله عليه وآله والأقرب شبهاً
له، مكرمة احتسبوها، وقتل الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء عطشاناً غريباً،
وحمل رأسه على القنا، وثنية جدّدوها، وتشريد حرم النبي صلى الله عليه وآله في سكك
الأمصار فضيلة اعتزَّوا بها، ولكننا عندما نستحضر قول اللَّه تعالى:
﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ
نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾
(سورة الصف: 8).
وعندما يتردد في أذاننا قول السيدة زينب عليها السلام في محضر يزيد
"فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فإنك فواللَّه لا تمحو ذكرنا ولا تميت وحينا ولا
تدرك أمرنا"، نستشف منها عليها السلام عظمة أهل البيت، ونستشف منها القداسة على مر
التاريخ، ولعلّ (لسان حال) الآثار الحسينية تخبر القاصي والداني بقول الشاعر: كذب
الموت فالحسين مخلّد وكلما مرّ عليه الزمان تجدّد فأنى توجهنا في تلك الربوع
والبلدان، التي استقر فيها رأس الإمام عليه السلام أو حلّ فيها أهل بيته عليهم
السلام، فإن آثارهم المباركة تطالعنا من بعيد، وأخبارهم المتجدّدة تخاطب الأسماع
بشوقٍ فريد، لذا، فإننا سنأتي على ذكر أهم المناطق التي عبروا خلالها، فمن
القادسية، وإلى تكريت، دير عروة، صلوتا، وادي نخلة، لينا حتى مشارف الموصل، حيث
أخذوا في مسيرهم طريق الفرات الغربي قاصدين الشام عبر حلب، حماه، حمص ثم بعلبك، لأن
البرية الفاصلة ما بين كربلاء ودمشق الشام مباشرة تعرف ببادية السماوة وقيل أنها
سميت كذلك لعدم وجود الحجر أو المدر أو الظل أو الحياة فيها.
في مدينة "نصيبين"، الواقعة على شاطىء الفرات، ثلاثة
مواقع متعلقة بحادثة السبي:
الأول: مشهد النقطة، الذي يقال عنده أنه نقط من دم الرأس الشريف نقطة هناك، وذلك أن
العين الذي كان مع رأس الإمام الحسين أراد أن يدخل البلد فلم يطعه فرسه، فبدله بفرس
آخر فلم يطعه، وهكذا حتى سقط الرأس من على الرمح إلى الأرض فنقطت منه نقطة.
الثاني: مشهد الرأس في سوق النشابين، وقد أقيم هناك لتكريمه والنوح عنده، وقيل أن
الرأس علق به لما عبروا بالسبي فيه.
الثالث: مشهد للإمام زين العابدين عليه السلام.
وبالقرب من نصيبين بلدة "عين الورد"، وفيها الرحبة التي نصب فيها رأس الإمام، فلا
يجتاز فيها أحد لقضاء حاجة إلا وتقضى حاجته إلى يوم القيامة. وفي "قنَّسرين" صومعة
راهب، لا تزال آثارها بادية، وفيها أعطى الراهب الجند اليزيدي عشرة الآف درهم
ليختلي بالرأس الشريف، ولما طلع الصباح وجدُّوا المسير، اكتشفوا أن الدراهم قد
أصبحت حجارة فرموها في الوادي. أما "كفرطاب" فقد زالت معالمها عن الوجود، وأندثر
القصر الذي أُغلق أمام الشمر وابن سعد، بعدما طلبوا من أهله الماء بقولهم "واللَّه
لانسقيكم قطرة واحدة وأنتم منعتم الحسين وأصحابه الماء" فرحلوا عنها، وليس فيها من
ماء الشرب إلا ما يجمعونه من مياه الأمطار في الصهاريج، لأنهم حفروا نحو ثلاث مائة
ذراع فلم ينبض لهم ماء.
فيما تضم "حلب" مشهدين مقدّسين:
الأول: مشهد الحسين عليه السلام، أو ما يعرف بمسجد النقطة وهو يقع في سفح جبل جوشن،
وقيل أنه سمي كذلك لأن الشمر بن ذي الجوشن كان قد نزل عنده أثناء السبي إلى الشام،
ويذكر ياقوت الحموي أن النحاس الأحمر كان يحمل من هذا الجبل ولكنه بطل منذ عبر سبي
الحسين بن علي عليه السلام، والسبب المشهور في تسميته، أن رأس الإمام الحسين عليه
السلام قد وضع على حجر مرتفع هناك فقطرات منه قطرة دم زكية، فصارت تلك النقطة نبع
تغلي كل عام في يوم عاشوراء، والناس من حينها يجتمعون حولها ويقيمون العزاء عندها،
حتى فتح سيف الدولة الحمداني بلاد الشام، ولما أُعلم بموضع تلك النقطة الشريفة، بنى
فوقها ما بناه من عمارة عظيمة، تعد من أروع المباني الإسلامية، وهي عبارة عن باحة
سماوية تحيطها أروقة مسقوفة بثلاث قباب، وعلى جانبيها إيوان ذو عقد جميل يحوي
الصخرة المباركة، وعندها مصلّى كبير، ويتوسط الجدار الجنوبي محراب ضخم، له عمودان
من المرمر، وبإزاء الباحة في الجهة الشمالية رواق محمول على ثلاث قناطر يعلوها ثلاث
قباب تستند إلى زوايا مثلثة، وفي مقابل هذا الرواق قاعة كبيرة تؤلف في اجتماعها
وحدة معمارية متكاملة، كما يحفل المشهد بعدة نقوش وكتابات تؤرخ سني بنائه، وتواريخ
تجديده وترميمه على مر العصور، ويتوسط الإيوان دكَّة مرتفعة، عليها حجر وردي اللون
غالباً ما يحمرَّ وسطه أيام عاشوراء.
الثاني: مشهد المحسن، وهو يقع في نفس جب جوشن، جنوب مشهد النقطة، ويقال له أيضاً
مشهد الدكّة ومشهد السقط، وذلك أن زوجة للإمام الحسين عليه السلام، كانت حاملاً
أثناء المرور في حلب، فأسقطت هناك نتيجة العذابات، فطلبت من الصناع في ذلك الجبل
خبزاً وماءاً فشتموها ومنعوها، ومنذ ذلك الوقت بطل استخراج النحاس من ذلك الجبل،
وغدا المشهد مزاراً يؤمه الناس من كل حدب وصوب، كما كشف عنه سيف الدولة الحمداني،
الذي كان له دكة هناك ينظر من خلالها إلى المدينة، ولما شاهد الأنوار تتساقط في
المكان، ذهب نحوه واحتفر الأرض ليجد حجراً مكتوب عليه؛ هذا قبر المحسن بن الحسين بن
علي بن أبي طالب عليه السلام، وكان ذلك سنة إحدى وخمسين وثلاثماية، وزاده الضريح
رهبة قوية، عندما وجد الطرح غضّاً طريّاً، ولما استسفر من الطاعنين في السن،
أخبروها مرور السبي من أهل البيت في هذه المحلّة، عندها عزم على بناء المشهد
قائلاً، هذا موضع قد أذن اللَّه تعالى لي في عمارته على اسم أهل البيت عليهم
السلام. ويعد المشهد، من أهم المزارات الموجودة في منطقة حلب، حيث تغص باحته، ويضيق
المكان عند ضريحه بمئات والآف الزوار أيام الجمعات وفي عاشوراء والأربعين.
* مقام الإمام زين العابدين عليه السلام - حماة
وغالباً ما يشاهد القاصد إلى "حماة" من حمص جبلاً مرتفعاً يعلوه مقام الإمام زين
العابدين ، وهو قائم على جبل يعرف بقرون حماة، وقد كان الإمام زين العابدين عليه
السلام قد طلب من الجند الأموي أن يأذنوا له بالصلاة عند أعلى الجبل، فيما بقي
الموكب عند أسفله، وإلى الآن قامت بلدة تعرف بالأشرافية نسبة إلى حرم الحسين عليه
السلام الأشراف في مكان نزولهم، فيما صعد زين العابدين إلى أعلى ذاك الجبل وصلّى
فيه، وغدا ذاك المصلّى مقصداً لمحبي أهل البيت عليهم السلام حيث دأب الحكام
والأمراء الحمدانيين والأيوبيين والمماليك على عمارته وتجديده، ونظراً لقدسيته وعلو
شأنه فقد أوقف أثرياء حماة لهذا المقام الكثير الكثير من الأوقاف الشرعية، وكان
النابلسي قد أشار أيضاً إلى وجود قبة للإمام زين العابدين عليه السلام في السهل
المنبسط أمام الجب.
* جامع الحسين عليه السلام - حماة
كما تضم "حماة" جامع الحسين عليه السلام المعروف بجامع الحسنين وهو يقع تحت القلعة
من جهة الجنوب مما يلي خندقها، وقد أقيم هذا الجامع في الموضع الذي نصب فيه رأس
الإمام الحسين عليه السلام. ومن الأمكنة التي نصب فيها رأس الإمام عليه السلام في
بلدة "رأس بعلبك"، في كنيسة جرجلين الراهب، الذي استوهبه من الجند الأموي، وقد
تحادث معه بشرح مطوّل أدت في نهاية المطاف إلى أن يعلن الراهب إسلامه، وأن يعتزل
النصرانية ويلجأ إلى مغارة عند منبع نهر العاصي ليسكن فيها، حيث أطلق عليها (اسم)
مغارة الراهب، نسبة إلى تلك الحادثة، وإلى اليوم لا يزال المسلمون يتباركون من هذه
الكنيسة التي تعرف اليوم بالدير العجائبي وفيها بئر يقال له "بئر الرأس".
* مسجد رأس الحسين عليه السلام - بعلبك
كذلك فإن مسجد رأس الإمام الحسين عليه السلام في "بعلبك" كان قد أقيم في المكان
الذي استراح فيه موكب السبايا، وكتعبير من أهل المدينة ووفائهم للإمام عليه السلام،
لذا جاء طراز بنائه مغايراً لكافة مساجد المدينة، إضافة إلى أن موقعه الذي جاء خارج
المدينة، أن السبب الرئيسي لإقامته كان لتخليد حادثة الرأس الشريف.
* مقام السيدة خولة عليه السلام - بعلبك
وتعتز بعلبك أيضاً بمزار السيدة خولة بنت الإمام الحسين عليه السلام، الذي شرّف
المنطقة بأسرها طهارة وقداسة، وهو اليوم مشهد يزدان رفعة وجمالاً بمساعي ولي أمر
المسلمين السيد القائد، ليزاحم في تاريخه المعابد الرومانية، وليحاكي بقداسته كل
العتبات. وفي بلدة حورتعلا البقاعية مقام ينسب لأحد أبناء الحسين عليه السلام يعظمه
أهل تلك المنطقة تعظيماً كبيراً، كذلك فإن "حقلة أهل البيت" في بلدة الخريبة
الواقعة بالقرب من بلدة النبي شيت، مكان مبارك عند العموم، حيث يشيرون إلى أن
الموكب قد استراح فيها في طريقهم إلى الشام عبر بلدتهم.
* مشهد رأس الحسين عليه السلام - دمشق
وإلى الشام، حيث كان السبي، وكانت الخيبة لدى يزيد، لأنه لم يشاهد من الإمام زين
العابدين عليه السلام، ولا من السيدة زينب إلا الثبات في الموقف، والقوة في
العقيدة، والإصرار في كشف القناع عن وجوه اللئام من بني أمية، فكان إصطفافهم
وجلوسهم في محضر يزيد، ضمن الجامع الأموي، مكاناً مقدّساً يتزاحم عنده المؤمنون
والمحبّون، كما أن المنبر الذي بإزاء هذه الباحة، كان قد علاه زين العابدين عليه
السلام يوماً، يعرّف الناس عن حسبه ونسبه، ليرعوي الفاسق وليفتضح الخائن، وبإزاء
الجامع الأموي لجهة الشرق مشهد الرأس الشريف، الذي وضعه يزيد في خزانته، وكان قد
وجده سليمان بن عبد الملك، فكساه خمسة أثواب من حرير وصلّى عليه وقبره بيده. ومهما
يقال عن مكان دفن الرأس الشريف سواء بردِّه إلى كربلاء أو بدفنه في الشام أو في
عسقلان بفلسطين، أو في القاهرة في مصر، أو في المدينة المنورة، فإن الكرامات
واللطائف الربانية التي تحصل في كل مكان يُنسب إليه، لإشارات مؤكدة، والشواهد محقّة
أن للحسين عليه السلام مرتبة عند اللَّه يغبطه عليها كل الشهداء والصديقين. ونستحضر
قول ابن الجوزي: "وبالجملة ففي أي مكان كان رأسه فهو ساكن في القلوب والضمائر، قاطن
في الأسرار والخواطر".
* مصلّى الإمام زين العابدين عليه السلام - دمشق
وبجانب مشهد الرأس الذي جاء ضمن كوة في جدار، وخلفها، ضريح رمزي لاحترام مكان الرأس
لئلا تطأه الأقدام يوجد مصلّى أو مشهد زين العابدين عليه السلام وهو المكان الذي
سجنه فيه يزيد بن معاوية عند قدومه إلى الشام، وكانت حتى فترة قليلة شبكة من الحديد
القديم المجدول معلقة في ذلك المكان.
* مقام السيدة رقية عليه السلام - دمشق
وبالقرب من الجامع الأموي يقع ضريح السيدة رقية بنت الإمام الحسين عليه السلام وهي
قد ماتت في الرابعة من عمرها عندما أمر يزيد بن معاوية بوضع رأس أبيها الإمام عليه
السلام في حضنها علّه بذلك يوقف بكاءها ومطالبتها برؤية أبيها، وقد جدّدت الجمهورية
الإسلامية مؤخراً مقامها بحيث أصبح من الطراز الأول في فن العمارة الإسلامية.
* مقامات الرؤوس والسبايا - دمشق
وتضم مقبرة باب الصغير مشهدي الرؤوس والسيدة سكينة، بالإضافة إلى مشهد السيدة فاطمة
بنت الإمام علي عليه السلام، وهذه المشاهد تقع على مقربة من بعضها، فالرؤوس تبلغ
ستة عشر من أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وقد جيء بها مع رأس الإمام عليه
السلام وقد دفنت جميعها في مكان واحد، وأقيم فوقه قبة دائرية للدلالة عليه، وبإزاء
مقام رؤوس الشهداء مسجد الإمام زين العابدين عليه السلام وهو المسجد الذي بقي فيه
أسارى أهل البيت حين وردوا دمشق، وهو يعد من أقدم المساجد في دمشق، وهي الخربة التي
وصلوا إليها في الشام قبل أن ينقلوا إلى الشاغور ومنها إلى باب الساعات. أما مشهد
السيدة سكينة كريمة الإمام لحسين عليه السلام والملقبة بأم كلثوم، فهو كائن في وسط
المقبرة وفوقه قبة وبإزائه بئر، وهو مؤلف من طابقين، السفلي حيث يضم الضريح وعليه
تابوت خشبي قديم محفور عليه بالخط الكوفي ما يشير إلى اسمها، فيما الطابق الأرضي
استخدم كمصلّى وفيه ضريح رمزي أقيم فوق الأصل.
* السيدة زينب الكبرى عليها السلام
لكن الأشهر من هذه الآثار مشهد السيدة زينب بنت الإمام علي عليه السلام في بلدة
راوية من غوطة دمشق، ويبعد عن دمشق مسافة 8 كلم، ويعدّ مزارها من أهم مزارات أهل
البيت عليهم السلام، لأنها كانت لبيبة جدلة عاقلة، لها قوة جنان ورباطة جأش، صابرة
محتسبة، ويقول ابن الأثير عنها، أنها كانت في الفصاحة والبلاغة والزهد والعبادة
والفضيلة والشجاعة والتقى أشبه الناس بأبيها وأمها فاطمة الزهراء، وقد برز دورها
بعد شهادة أخيها الإمام عليه السلام، حيث تصدّت لأمور أهل البيت، بل وجميع بني هاشم
قاطبة، ولها من المواقف المشهورة والخطب الموصوفة ما يجعلها بحق الحوراء المقدّسة.
يا زائراً قبر العقيلة قف وقل |
مني السلام على عقيلة هاشم |
هذا ضريحك في دمشق الشام قد |
عكفت عليه قلوب أهل العالم |
هذا هو الحق الذي يعلو ولا |
يعلى عليه برغم كل مخاصم |
سل عن يزيد، أين أصبح قبره |
وعليه هل من نائحٍ أو لاطم |