موسى صفوان
رغم أن مصطلحي الاستكبار والاستضعاف كانا موجودين في
القرآن الكريم في آيات عديدة تتحدث عن الأمم الغابرة، إلا أنه يمكن القول وبكل
اطمئنان أن الإمام الخميني قدس سره هو الذي وضع هذين المصطلحين في جملة ما أحياه من
السنن الإسلامية الدارسة موضع التداول، ونقل العالم من أيديولوجيات قائمة على
التناقضات المختلفة من عقائدية، وقومية، وعرقية، ودينية، ومناطقية، إلى تناقض
اجتماعي ذي جذور إنسانية، نحن اليوم أحوج ما نكون إليه.
لقد بات واضحاً أننا اليوم وفي عصر العولمة، بتنا نعاني، كأشد ما تكون المعاناة، من
التناقض الذي بدأ يميل نحو الصدام، بين القلة المستكبرة، والكثرة المستضعفة، وكأن
الإمام الخميني قدس سره الذي جاء إلى العالم بصورة عملية في نهاية القرن الهجري
الرابع عشر، ليرسم للعالم الصورة الجهادية للقرن الخامس عشر عندما قال "يا مستضعفي
العالم اتحدوا"، وقال: "هذا قرن انتصار المستضعفين على المستكبرين".. جاء
ليرسم النهج السياسي الجديد الناجع للقرن القادم!! لقد ظهر الإمام الخميني كما لو
أنه ينحت مصطلحات جديدة لعالم غارق بالمصطلحات والأيديولوجيات، والواقع أنه من
منطلق إدراكه حقيقة الوضع العالمي فضلاً عن الوضع الإسلامي، ومن منطلق وعيه وتشخيصه
للحالة التي وصلت إليها مسيرة الإنسان في العقدين الأخيرين من القرن العشرين،
واستفادته من ذخيرته الإسلامية، واستغراقه في المفاهيم الإسلامية وجد من الضروري
توجيه نصيحته الثمينة للعالم... إن الاستكبار ليس له دين فدينه السلطة، وليس له
قومية فقوميته النخبة المستعلية بسلطان المال والقوة، وليس له عرق أو انتماء أو
مبادئ أخلاقية، لا بل إن المستكبرين على مدى التاريخ كانوا يتجاوزون كل القيم
الإنسانية وينقضون كل المعاهدات، وينشئون كل الأحلاف من أجل هدف واحد فقط هو
المحافظة على الموقع المستكبر والمتجبر والمتسلط...
عندما تتحدث الأرقام عن 500 شخصية أو أقل يمتلكون أكثر من 80% من ثروة العالم، وهم
لا ينتمون بطبيعة الحال إلى أمة بعينها، بل منهم الغربي ومنهم الشرقي ومنهم الأسود
والأبيض، ومنهم المسيحي والمسلم والبوذي وغيرهم من الأديان... وعندما تتحدث الأرقام
عن انقسام العالم كله إلى دول غنية وأخرى فقيرة، وانقسام الدول جميعاً وبدون
استثناء مجتمعين أحدهما مجتمع النخبة الذي لا تتجاوز عدد أفراده عدد أصابع اليد،
وطبقات الشعب الأخرى التي تنحدر سريعاً نحو هاوية الفقر، في حين تسجل النخبة أرقاماً
قياسية للثروة المكدسة في أرصدة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي أو البنوك
العالمية الأخرى... عند كل ذلك، لا تجد أليق من استعمال هذين المصطلحين: طبقة
مستكبرة فرعونية متحكمة بمصائر الشعوب، وطبقة مستضعفة تزداد معاناتها في كل يوم...
ولدى مراجعة الأحداث سوف نجد أن كل ما تعاني منه البشرية اليوم من حروب ونزاعات،
ومشاكل وأزمات، وحتى من كوارث طبيعية وفيضانات، أو جفاف ومجاعات أو تلوث وآفات...
كل ذلك ما هو في الحقيقة إلا صور متنوعة لظاهرة الإستكبار والتسلط الإنساني الذي
فقد القيم، وظاهرة الاستضعاف التي فقدت الكثير من وسائل المقاومة والممانعة، وتخشى
من استخدام ما بقي لديها منها خوفاً من تلفظ الرمق الأخير. وفي كتاب
الله ، مصدر
الهام الإمام الخميني يقول تعالى:
﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي
النَّاسِ
﴾ (الروم: 41). وحتى تدرك الشعوب حقيقة ما يشكلّه هذا الوباء
الاستكباري المستشري، وحتى تدرك الشعوب المستضعفة ضرورة نفض غبار الاستضعاف والنهوض
من أجل استجماع ما تبقى من عزيمة وإرادة لتصحيح المسار الإنساني سوف تبقى الصورة
على ما هي عليه اليوم...
بيد أن السنن الإلهية التي لا تتبدل لا يمكن أن تخطىء هذه
المرة أيضاً، ولن يستطيع الإستكبار التمادي أكثر في غيه، وسيجعل
الله بعد عسرٍ
يسرا...