أختاه..
الآن، إذ أكتب لكِ هذه الرسالة، يغطي دخان النار أطراف الموضع الذي أجلس فيه، الطائرات التي أهداها الشرق والغرب للعدو تقذف على رؤوسنا كل لحظة عشرات الأطنان من المواد المتفجرة والحارقة، لا أدري بالضبط كم بقي من عمري. فالحياة لا قيمة لها، المهم هو الدفاع عن الدين والأمة الإسلامية ولئن أردنا الحياة نريدها للإسلام، لا لمجرد البقاء.
أختاه: في هذه الرسالة، لا أخاطبكِ أنتِ فقط، بل كل الأخوات اللواتي يجري دم الإسلام في عروقهن، وتسري روحه في أجسادهن.
أختاه، أنا لا أنسى ما عانيتِ وتحملتِ... يوم كنتِ تعملين إلى جانب أخيكِ. تزرعين وتحصدين، ويوم تحملتِ أعباء البيت ومسؤولية تربية الأطفال.
لن أنسى أبداً كيف كنتِ تحملين طفلكِ، ويدكِ تمسك بالمنجل وتحصد القمح.
لن أنسى أبداً ذلك اليوم الذي كنت فيه تحصدين سنابل الرز برغم التعب.
أختاه: عند حصاد أوراق الشاي، والقطن والقمح والرز رأيت في قسمات وجهكِ الصبر والعزيمة، إذ علقتِ أملكِ بالله واتكلتِ على إرادته وقوته.
أختي الحنون: أمام قاعدة حياكة السجاد، كانت أصابعكِ الرقيقة هي التي تُجسّد السعي والفن والمثابرة في سجاد كاشان وكرمان ويزد وخراسان، وصناعاتكِ اليدوية هي التي كانت تقطع يد الاستكبار عن التلاعب بمصير الأمة الإسلامية.
أتذكّر يوم كنتِ تجلسين إلى ماكنة الخياطة لتخيطي الملابس لي ولباقي إخوتكِ وأخواتكِ، ويوم تحيكين لنا ما يكسو أبداننا.
أختاه، لم يكن دوركِ المهم في جبهة الاقتصاد وحدها، بل لقد رأيتكِ في المدرسة تحاربين الجهل، مع سائر الأخوات، في نهضة مكافحة الأمية، تطاردين فلول الأمية في كل مدينة وقرية. وفي خندق التربية، كنتِ الأم والمعلمة والمربية للرجال العظماء.
إن لكِ في مجال التربية، الدوُر الأول والأساس، إنه الدور الذي اضطلع به القرآن والأنبياء.
أختي العزيرة: يوم وطئت قدماكِ أرض الجامعة وأنتِ ترتدين الحجاب، حبطت مؤامرات الاستكبار وذهبت أدارج الرياح. هؤلاء كانوا قد عقدوا الآمال على شيئين: على جهل المرأة وأميتها، وعلى ضعف إرادتها وفسادها الأخلاقي.
لقد رسم الاستكبار هذين الطريقين أمامكِ فإما أن تختاري الجهل والأمية وإما الفساد الأخلاقي.
إن وجودكِ الملتزم في الجامعة والدراسات الدينية قد أثبت أنكه رفضتِ الجهل والفساد معاً، واخترتِ العلم والعفَّة معاً، أيضاً.
أختاه: لا أريد ولا أستطيع في هذه الرسالة أن أسرد تاريخ مظلوميتكِ، لكنني أري أن أدوّن هنا دوركِ أنتِ وأمي العزيزة، في هذه الأوراق التي جمعتها من زوايا الخندق، وسأوقعها بدمي، ليتسنَّى للأجيال القادمة، الاطلاع على نهج أمي وأختي، ولتعمل بناتي للحفاظ على ميراث جداتهن وعماتهن وخالاتهن.
أختاه، إذا كنتُ أنا اليوم أقف في هذا الخندق بفخر واعتزاز، فلأني رأيتكِ واقفة في ميدان الجهاد من قبل.
في السابع من تموز عام 78 رأيتكِ ترتدين الكفن وتطلقين في "مشهد" أول صرخة ثورة ضد العري.
رأيتكِ في العاشر من شباط 79 تتقدمين نحو العسكر دون خوف أو وجل، رأيتكِ تعدّين قناني المولتوف، وتجلبين الأغطية لأخوتكِ، وتنقلين جرحاهم إلى بيتكِ.
وفي الثامن من أيلول عام 78، يوم الجمعة السوداء، رأيتكِ أمام المتظاهرين تحملين طفلكِ وتطلقين صرخاتكِ بالتحدي. كنت تأملين من ذلك أن يبعث الخجل في نفوس عملاء الاستكبار، فلا يطلقون النار على إخوتكِ، لكنهم لم يراعوا لكِ حُرمة.
أختي المثابرة
لقد رأيتكِ وأنتِ تشاركين في الثورة الإسلامية رأيتكِ في المستشفيات تضمدين جراح إخوتكِ، فكنتِ، بحق، تضمدين بذلك جراح أصحاب الحسين وتصبين الوقود على قلب النظام الاستكباري المحترق رأيتكِ تطبعين بيانات الإمام ونداءاته ومحاضراته، وتحملينها تحت عباءتك لتوزعيها على المنازل.
أختاه
اشتراككِ في المظاهرات كشف عن إيمانك الفولاذي وعزمكِ الراسخ. كنتِ تحملين على يدكِ طفلاً وفي أحشائكِ آخر وفي جو من الإرعاب والتخويف، كنتِ تسيرين المسافات الطويلة وأنتِ تهتفين: قسماً بسيدة النساء فاطمة، لن أخشى الموت!
لن ينسى أحد يوم تقطّع جسدكِ وطفلكِ الصغير تحت دبابة النظام الشاهنشاهي في "مشهد".
لقد كنتِ ملهمة زوجكِ وأخيكِ، ودفعتِ حتى بأبيكِ العجوز إلى الاشتراك في المظاهرة.
أختاه، رأيتكِ ترتدين الكفن فوق حجابكِ، وترفعين قبضتكِ صارخة: نعم للشهادة، لا للاستهتار!
في ليالي التكبير، رأيتكِ على سطح المنازل تقذفين حمم: "الله أكبر" على رؤوس الأعداء.
أختي المضحية
في الجهاد ضد أعداء الثورة، في الداخل، انتهجتِ طريق الإسلام عندما سلَّمتِ إبنكِ السائر في طريق النفاق إلى العدالة.
أختاه: رأيتكِ في مدينة (باوه) تقاتلين العملاء، ومن فوق السطوح تقذفين بالقنابل على ناقلات العتاد للعدو وتفجرينها.
رأيتكِ في ملحمة "آمل" التي جعلتيها -مع أخوتك- مدينة الألف خندق، وأنته تخيطين الأكياس وتملأينها رملاً وتحملينها على كتفيكِ.
رأيتكِ في صلاة الجمعة، وفي محراب العبادة، تكررين تسبيح فاطمة عليها السلام.
أختي المضحية
وجودكِ في ساحة الدفاع المقدس ضد النظام البعثي، هو صفحة مضيئة أخرى لكِ، في (خرمشهر) كنتِ تنقلين العتاد، وفي (آبادان) توصلين الماء والطعام إلى الأبطال، وفي (سوسنكَرد) تعالجين الجرحى وفي (قم) و(طهران) و(أصفهان) وسائر أرجاء إيران تصنعين الخبز والحلوى لأبطال الإسلام، وفي بيت الزهراء تخيطين لباس البطولة والقتال للأبطال في الجبهات.
أختي العزيزة
قصيرو النظر يقولون: إن المرأة تعبد الذهب وتعشق المظاهر، لكنني رأيت بأم عيني آلاف النساء من إيران وباكستان ولبنان والكويت يهدين كل مصوغاتهن في سبيل الدفاع عن الإسلام المحمدي.
أختي، لقد كسرتِ حلقة الحصار الاقتصادي يوم قدمتِ حلقة خطوبتكِ إلى جبهة الإسلام، لقد أثرتِ بذلك، الرعب في جبهة الكفر، وضيّقتِ الخناق على الشيطان.
لقد طردتِ فكرة الاعتداء من ذهن العدو يوم استعرضتِ في شوارع المدينة، بالسلاح والحجاب.
يوم تزوجتِ ذلك البطل المضحّي الذي فقد كلتا عينيه، إنكِ لم تدخلي السرور على قلبه وحده، بل على قلب كل الأمة الإسلامية، وأعميتِ بذلك عيني الاستكبار كلتيهما.
سيسجل التاريخ أنكِ أنجزتِ العملية القيصرية، تحت القصف الوحشي في (ايلام)، وأنقذتِ حياة الطفل وأمه.
أختاه: يوم ودعتِ ابنكِ من تحت القرآن، بقبلة في جبينه قائلة: إن لم تستبسل فحليبي حرام عليك! يومذاك تحطمت ماكنة الاستعمار الحربية، ووقف العالم مبهوراً أمامكِ.
يوم قبّلتِ نحور أخيكِ وزوجكِ وابنكِ وقلتِ: اللهم تقبل مني هذه القرابين! انحنت لكِ الملائكة إجلالاً وإكراماً.
أختي الواعية
أنتِ لم تكوني المسلمة الثورية في إيران فحسب. فقد رأيتكِ في بيروت تحملين راية "الله أكبر" معلنة دعمكِ لاحتلال وكر التجسس الأمريكي في طهران.
رأيتكِ في "دار السلام" مع حشد من النساء المسلمات، تقفين في باب سفارة إيران، وبمثل نقاء الماء وحرارة الشمس كنتِ تقولين: امنحونا شرف تربية أبناء الشهداء، فليس لدينا ما نقدمه غير هذا.
رأيتكِ في تكساس، في قلب الكفر، تصومين وتتبرعين بثمن وجبة الغذاء دعماً للثورة الإسلامية.
رأيتكِ في اسطنبول وأنقرة، تُطردين من المدرسة والجامعة بتهمة "ارتداء الحجاب".
رأيتكِ في ميناب، في كوبري محقر، تضعين على الجدار صورة الإمام ولوحة كتبتِ عليها الآية الكريمة: "إنَّ حزبَ الله هُمُ الغالبون". وفي ذلك البيت الصغير قلتِ لي: ابني الأكبر استشهد، والاثنان الآخران في الجبهة. أنا سعيدة، ولكن لي أمنية أسأل الله أن يحققها لي، قلتُ: وما هي؟، قلتِ: لي ولدان آخران: الأكبر في السادسة عشرة والثاني في الرابعة عشرة، نذرتهما للجبهة ضمن قوات المتطوعين، وأمنيتي أن يقبلوهما في قوات التعبئة.
أختاه، يومذاك فهمتُ لماذا سجدت الملائكة لآدم. يومذاك آمنت بالرواية القائلة بأن من بين أصحاب المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف ثلاثين امرأة.
يومذاك أيقنت أنكه الكوثر بمائه الوفير وخيره الكثير.
أنتِ "هاجر" التي أوصلت إسماعيل إلى مِناه.
أنتِ "هاجر" التي سعت بين الصفا والمروة حتى وصلت إلى زمزم.
أنتِ "هاجر" التي هجرت نظام الشِرك، إلى أرض التوحيد.
أنتِ "آسيا" التي علَّمت نساء العالم، التمرد على الكفر وزخرف الحياة وترفها.
أنتِ "صفورا" رفيقة جهاد كليم الله وزوجته.
أنتِ "بلقيس" ملكة سبأ التي انتقلت من عبادة الشمس إلى عبادة الله واتّبعت نهج سليمان.
أنتِ "رحيمة"، زوجة أيوب التي تعلّمت من أيوب، الصبر على المصائب وقدمت لنساء العالم درساً في الوفاء والإخلاص للزوج.
أنتِ "يوكايد" التي كانت تذبّ الأخطاء والأذى عن موسى.
أنتِ "حنة" زوجة عمران وأم مريم التي نذرت ابنها في سبيل الله عندما قالت:
﴿إنِّي نذرتُ لك ما في بطني مُحرراً فتقبّل من أنّك أنت السميع﴾.
أنتِ "مريم" التي قدمت عيسى المسيح إلى البشرية، وأصبحت قدوة للمؤمنين، رجالاً ونساء.
أنتِ "خديجة"، التي سقت، بثروتها وشهرتها وراحتها، شجرة النبوة الطاهرة، التي أثمرت الزهراء المطهرة.
أنتِ "الزهراء" التي انتهل منها أحد عشر معصوماً.
أنتِ "فاطمة" التي حملت بين جنبيها النفس المعصومة.
أختاه: أرى فيكِ سمية أم عمار أول شهيدة وامرأة شهيد في الإسلام.
أنتِ صفية عمة النبي التي خرجت لجاسوس العدو في حرب بني قريظة، فضربته بعمود الخيمة وقتلته، وبذلك حصلت من النبي صلى الله عليه وآله وسلم على حصة المقاتل.
أنتِ فاطمة بنت أسد، وأم علي عليه السلام، ثاني امرأة اعتنقت الإسلام، وأول امرأة بايعت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وعندما ماتت، كفنت بعمامته.
أنتِ نسيبة التي حضرت بيعة العقبة، بيعة الرضوان، وشاركت في غزوة أحد إلى جانب زوجها وابنها، وفي الحرب مع مسيلمة الكذاب، قدمت ابنها إلى الإسلام بينما أصيبت هي باثني عشر جرحاً.
أنتَ أم عطية التي كانت في خدمة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في سبعة حروب، كانت تصنع الخبز لجند الإسلام، وتداوي جرحاهم.
أنتِ أسماء بنت عميس التي هاجرت مرتين، وكانت حافظة لسر الزهراء عليها السلام قدّمتِ زوجكِ إلى الإسلام في حرب مؤتة، وابنكِ محمد بن أبي بكر في مصر.
أنتِ أم سلمة التي حُرمت من حقها في بيت المال بسبب دفاعها عن علي عليه السلام.
أنتِ أم أيمن التي أهينت وأخرجت من مسجد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بسبب وقوفها بوجه غصب الخلافة.
أنتِ زرقاء الهمدانية التي بادرت هي وقبيلتها إلى مناصرة علي عليه السلام وكانت تثير الحماس في جند الإسلام في حرب صفين.
أختاه، أحياناً يذكرني وجهكِ بـ"فضة" التي ظلت طيلة عشرين عاماً، لا تتحدث إلا بالقرآن.
وأحياناً تذكرينني بـ"حسينة" التي استطاعت بعلمها الواسع ومناظراتها المدافعة عن علي عليه السلام، انتزاع اعتراف العدو والصديق.
وأحياناً أرى في وجهكِ أم ذر التي وقفت مع زوجها في محنته في الربذة.
أختاه
أنتِ زينب التي علّمت الجبال الصبر والثبات، وحامت عن الإمام السجاد عليه السلام مقابل استهتار يزيد، وعرّت الجبابرة والطواغيت من خلال خطبها الرنانة.
أنتِ "طوعة" التي آوت مسلم بن عقيل مندوب الإمام الحسين الذي كان يبحث عنه الأعداء، عندما نكص كل أبناء الكوفة عن ذلك.
أنتِ "أم وهب" التي حاربت جيش يزيد برأس ولدها، وضحت بابنها وزوجها في سبيل ابن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
أختي المضحية
أنتِ في هذا القرن، "آمنية قطب" التي صرخت -مع أخويها- بوجه فرعون مصر.
أنتِ في عصرنا "آمنة بنت الهدى" التي قدمت نفسها مع أخيها الصدر على مذبح العقيدة، في سجون نظام البعث في العراق.
أنتِ هاجر التي قدمت اليوم "روح الله" هدية للأمة الإسلامية.
أختي المضحية
رسالتي هذه، ليست للإشادة بكِ، ولا لسرد معاناتكِ. إنها أوراق قليلة من تاريخ إيمانكِ وتضحياتكِ، يكتبها أخوكِ الرابض في خندقه بمدينة الفاو أو "الفاطمية"، ليذكركِ بتاريخكِ الوضّاء وليحذركِ، فالشياطين يريدون نزع لباس العفة عن جسمكِ، ويدفعونكِ إلى الأكل من الشجرة الملعونة.
أحفاد أبي سفيان يريدونكِ "هند" آكلة الأكباد.
وأحفاد أبي لهب يريدونكِ "حمَّالة الحطب".
يريدون شد حبل من مسد، منسوج من ظلام الجهل والهوى حول رقبتكِ الرقيقة، ليأخذوكِ حيثما رغبوا.
عبَّاد المال يريدونكِ دلالة لتصريف بضائعهم، ومستهلكة "عمياء" لكل ما ينتجون.
المجموعات العميلة تريدكِ آلة بيدها، وتجار الهوى يريدونكِ لوحة تزين حفلاتهم الماجنة، وسكرتيرة رخيصة وجميلة لمكاتبهم.
القوى الكبرى تريدكِ دمية، وأداة للتجسس، والاستكبار يريد أن يصنع منكِ "ملكة جمال" إرضاء لأهواء الممسوخين الماجنين، فإن وقفتِ بوجههم وسلكتِ طريق الإيمان والعلم، قصفوكِ بوحشية، كما حدث لبنات "ميانة" وسيدات "چهار مردان" في (قم).
أختاه
الشرق والغرب يطمعان بجسدكِ، يخططان لاستغلاله اقتصادياً وجنسياً لكنكِ روح قبل أن تكوني جسداً، وإنسان قبل أن تكوني امرأة، آمالكِ، معلقة في السماء والحياة الأبدية الخالدة، قبل أن تتعلق بالحياة الدنيا.
أنتِ، في الإيمان، خديجة.
وفي العصمة، فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي الهجرة فاطمة أم علي عليه السلام.
وفي البيعة، نسيبة بنت كعب.
وفي الدفاع عن الإمامة، فاطمة وزينب عليها السلام.
وفي الشهادة، سمية أم عمار.
وفي التربية، آمنة ونرجس.
أختاه
أنا لا أوصيكِ بالحجاب، لأنني أعلم جيداً، أنكِ اخترتيه طواعية، وأنكِ تعلمني بأنه راية استقلال أمتنا ومظلة نجاة لكِ، وأنتِ حاملة راية هذه المقاومة بوجه شيطان الهوى والشيطان الكبير.