"إلهي... وإن الراحل إليك قريب المسافة... وإنّك لا تحتجب عن خلقك إلاّ أن تحجبهم الآمال دونك".
في غمرة الأحداث التي تملأ حياة الإنسان، وفي لجة المشكلات التي تعترض طريقة قد يظنّ إنّ المصائب والابتلاءات عقبات مانعة من وصوله إلى السعادة التي يأملها واللذة التي ينشدها...
ولأنّه لا يجد في نفسه القدرة على تجاوزها أو مواجهتها في معظم الأحيان، فإنّه يُصاب بحسرة شديدة وحزن عميق يحوّل حياته إلى فيض من اليأس المشوب بالرغبة المستمرة للهروب...
تجد أكثر الناس يعيشون القلق الدائم والنزوع للفرار من الآلام التي يرون أنّهم غير قادرين على تغييرها. وأثناء المحاولات الدائمة للفرار يبحثون عن لذّة هنا ولذّة هناك عسى أن ينسوا بذلك آلام المصائب والأحزان التي تنشأ من طبيعة الحياة الدنيا.
ولكن الحقيقة التي تخبرنا عنها تعاليم الإسلام تؤكد أن جميع الآفات والمصائب التي تحدث في عالم الدنيا لا يمكن أن تكون مانعة من وصول الإنسان إلى سعادته الحقيقية واللذة الكبرى التي ينشدها. ذلك لأنّ حقيقة السعادة الأصيلة هي الكمال الواقعي الذي تناله الروح المجردة التي هي فوق عالم الدنيا، فحيث أنّ الكمال الذي تطلبه الروح بالأصل هو شيء فوق المادة، وحيث أنّ الروح مجردة غير مادية.
فإنّ جميع الموانع المادية المتصورة لا يمكن أن تكون عائقاً بأيّ حال من الأحوال بين الإنسان وسعادته الحقيقية،
ولكن بما أنّ أكثر الناس يرون كمالهم في اللذات المادية، وبما أنّ الحوادث التي لا يقدر الإنسان على تغييرها تقع في عالم المادة "كالموت والزلازل والحروب و...".
فإنّ هؤلاء يتردّدون بين خوف وحزن مستمرين: حزن على ما ضاع أو خوف مما يمكن أن يضيع.
وعندما يفكر الإنسان بعقله الصافي يدرك أنّ ما ينشده بعمق وجوده "أي بفطرته" هو أمر يفوق لذات الدنيا المادية. هذا الذي لا تقدر المصائب والحوادث المادية على قهره أو حتّى إصابته بمكروه، عندها سيشرق في نفسه نور الأمل العظيم الذي سيبدّل حياته إلى رجاء مستمر وسرور دائم بقرب إدارك المأمول "السعادة الكبرى".
فالإسلام يبين لنا أنّ أكثر ما نتصوره من الشرور ليس شراً واقعياً، بل الشر الحقيقي هو الذي يمنع الإنسان من الوصول إلى الكمال المنشود.
وهنا لا يقف في ساحة المسؤولية إلاّ الإنسان نفسه وبتعبير آخر، يكن الإنسان المسوؤل الوحيد عن ضياع السعادة وابتعادها عنه.
فالسعادة الحقيقية أقرب إلى الإنسان من نفسه، وما عليه إلاّ أن يُقبل عليها كما ينبغي. ولكن تأتي المشكلة لتحدثنا عن تقصير البشر وإعراضهم عنها.
فلقد عيّن الله سبحانه وتعالى طريق الوصول إلى الكمال وبلوغ السعادة، وذلك بالإعراض عن كلّ ما يخالفها: من النظر إلى الدنيا أو اعتبارها الكمال النهائي، أو الانخداع بزينتها والركون إلى حظ النفس أو اعتبارها السبب الحقيقي في نيل الكمال وو...
إنّ العارف الموحّد يدرك أن كلّ خير وكمال ولذة وسرور ليس إلاّ من الله تعالى، فإذا ظنّ الإنسان أنّ الخير في الدنيا أو من نفسه فقد ضلّ ضلالاً بعيداً، وإذا سعى لها من خلال ذلك فقد خسر خسراناً مبيناً: ﴿أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتّى إذا جاءه لم يجده شيئاً﴾.
وقد قال مولى الموحدين وسيد العارفين أمير المؤمنين عليه السلام: "إلهي ماذا وَجَدَ من فقدَك بل ماذا فقد من وجدك".
ولأجل تخليص الإنسان من هذا السعي الخاسر والظن الفاشل أمره الله سبحانه بأن يتجه نحو السعادة من مصدرها الوحيد وأن يطلبها من صاحبها الأصيل. هذا الطلب يتجلى بصورة الطاعة والعبادة التي يُعبّر من خلالها السالك عن إدراكه لأصل العطاء والخير، وبالتذلل الدائم يخرج عن ظنه الواهم بأنّه صاحب السعادة.
إنّ عبادة الله عزّ وجل هي أصدق تعبير عن الالتفات إلى مصدر الخير والسعادة والكمال والخروج من الوهم الكاذب الذي يسوّل للإنسان بأنّه يمتلكها أو يمكنه الحصول عليها من غير الله تعالى.
أمّا المعصية فليست إلاّ خروجاً عن هذه العبادة وهذا الاعتقاد الصادق. حيث يعود هذا الإنسان إلى طلب السعادة من عند غير الله تعالى.
إذا فكرنا في طبيعة المعاصي والذنوب نجدها حالة من إعلان الرفض لإرادة الله، وحالة من الخروج عن جواره والهروب من سلطانه الذي وسع كلّ شيء رحمة وخيراً. فالعاصي كأنه يقول لخالقه: إنني لا أريدك... وهو بهذه المقولة يعلن عن رفضه لعطاء الله الذي لن يجد غيره عند غيره سبحانه.
من هنا نفهم لماذا كانت الذنوب حجاباً بين الإنسان المذنب وكماله. ولماذا لا يوجد في هذه الدار إلاّ نوعاً واحداً من الشر الذي على الإنسان أن يجتنبه، ويمكنه أن يجتنبه؛ ألا وهو مخالفة إرادة رب العالمين التي تدعوه لكل كمال ممكن وخير ميسور.
وقد ورد في الروايات الشريفة عن الإمام الباقر عليه السلام قوله: "في القلب نكتة بيضاء، فإذا أذنب العبد خرج من تلك النكتة نقطة سوداء، فإذا تاب العبد زال ذلك السواد، وإذا تمادى في الذنوب زاد السواد حتّى يغطي القلب كلّه، وعندها لا يعود صاحبه إلى خير أبداً"، ثم تلى قول الله تعالى: ﴿كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون﴾.
وبالاطلاع على تعاليم الإسلام نفهم أنّ للذنوب آثاراً واقعية على وجود الإنسان ومصيره. فالمذنب يعمي على نفسه الحقيقة، بل يمكن أن يصل نتيجة التمادي في الذنوب إلى درجة الاستهزاء بها كما قال الله تعالى: ﴿ثمّ كان عاقبة الذين أساؤوا السوء أن كذّبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون﴾. وتكون سبباً لحرمان الإنسان من كمالات أساسية:
اللهم اغفر لي الذنوب التي تهتك العصم
اللهم اغفر لي الذنوب التي تنزل النقم
الله اغفر لي الذنوب التي تنزل البلاء
اللهم اغفر لي الذنوب التي تحبس الدعاء
اللهم اغفر لي الذنوب التي تقطع الرجاء.