الشيخ مهدي إيليا أبو زيد
من جديد تهفو القلوب نحو العبير المنبعث من أمِّ القرى، لتتردد الهمسات (هنيئاً للقاصدين)، إلى جامعة التحرر البشري، وقبلة العاشقين لفطرة الله التي فطر الناس عليها، حيث كلّ مفصل من مفاصل هذه الدورة الإلهيّة يرنو إلى أن يعود الإنسان إنساناً. وهذا الكلام ليس صرف إنشاء أو نسْج خيال، وإنما يمكن أن نتلمس حقيقته في مدرسة الوحي الإلهي، حيث نتيقن أن كل مفصل من هذه العبادة - كما كل العبادات - يعج بالمعنويات ويضج بالروح.
*أرض المواجهة
فكل خطوات الحاج - إلى أن يصل إلى أرض المواجهة حيث رمى إبراهيم عليه السلام الشيطان - مرتبة للوصول إلى هذه النقطة، بعد أن يكون قد تزوّد بما يجعل مواقفه حازمة وحاسمة ولا التباس فيها. وهذا ما نسعى لفهمه من خلال التأمّل في مضامين هذه العبادة بتوفيق من الله تعالى.
فالرجم أو إعلان المواجهة، يأتي في سياق سلسلة من التدابير الإلهية التي تبدأ من: الإحرام نحو الملكوت يليه السماح للمكلّف بالوقوف في صعيد عرَفة في طريق المعرفة والاعتراف ثم الإفاضة إلى المشعر الحرام (المزدلفة) ليجتهد في جمع الحصى من ذلك الوادي، ويبقى ذاكراً لله تعالى، في حال استئذان، إلى شروق يوم العيد ليتوجّه بعدها إلى منى حيث يترجم عملياً كل تعهّداته وأولها رجم الجمرة الكبرى أو الشيطان، وهو ما نحن بصدد الحديث عن سلاحه، والذي يتوقف على كل ما سبقه من مناسك هذه العبادة وصولاً إلى امتلاك الحصيات، سلاح الحقيقة الوحيد في مواجهات الانسان المتعددة، إذ إنّ الرجم يتكرّر من المكلّف على مدى ثلاثة أيام، وصولاً إلى اكتمال النصر ﴿فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ﴾ (المائدة: 56) وتحقيق الذات وإن بمقدور الإنسان فيما لو كان محقاً أن يواجه كل من يقف في طريق كماله.
*مواصفات الحصى
ولهذه الحصيات مواصفات وخصائص زمانية ومكانية ولها رمزيّة وخلفيّة يمكن أن نشير إليها فيما يلي:
- الخصائص الزمانيّة والمكانيّة: فعن الإمام الصادق عليه السلام: ".. خذ حصى الجمار من المزدلفة، فإن أخذتها من منى أجزأتك"(1). فالحصيات لا تكون إلا من منطقة الحرم، من المكان المقدس من المزدلفة في الغالب، وإذا ما تأمل الإنسان في الظروف المحيطة التي ترافق تهيئة هذه الحصيات حيث تلتقط -بعد جهد دؤوب من العناء والتضرّع والتوسل والابتهال في سبيل الانعتاق- في عتمة ذلك الليل الدامس من ليلة العيد، ولذلك يتحفظ عليها الحاج ويضن (يبخل) بها عن كل أحد. فذلك الوادي -المزدلفة- (هو أكثر بقاع الأرض أفاعيَ وعقارب) ولكنه في تلك الليلة يختلف كلّياً، حيث يروى عنْ مولانا الباقر عليه السلام: "إِنَّ الْمُزْدَلِفَةَ أَكْثَرُ بِلَادِ الله هَوَامّاً فَإِذَا كَانَتْ لَيْلَةُ التَّرْوِيَةِ نَادَى مُنَادٍ مِنْ عِنْدِ الله يَا مَعْشَرَ الْهَوَامِّ ارْحَلْنَ عَنْ وَفْدِ الله، قَالَ: فَتَخْرُجُ فِي الْجِبَالِ فَتَسَعُهَا حَيْثُ لَا تُرَى فَإِذَا انْصَرَفَ الْحَاجُّ عَادَتْ"(2).
فالحصيات ترمز إلى تلك الحقيقة التي لا يمكن تحصيلها إلّا من مظانّها وبعد جدّ وكدّ وسعي، وفي الزمان والمكان المناسبين.
- كيفية تحصيل الحصى (التقاطاً): وهي إشارة إلى أن سلاح المواجهة (الحقيقة) ليست مجتمعة في مكان واحد نغترف منه، بل هي مبثوثة في كل مكان بين أكوام الدسائس والحيل والأباطيل، والحصول عليها يتطلب دقة متناهية وتمحيص ﴿حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ (آل عمران: 179).
- حجم الحصى (بقدر الأنملة): فالبعض يرى الحقيقة بالحجم، وأن ما هو أكبر حجماً هو الأكثر فاعلية ودقة، في حين أن المناط هو وثاقة ما يركن إليه، ولنا على ذلك من الشواهد قصة الفيلة التي أرسل الله إليها ﴿...طَيْراً أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ﴾ (الفيل: 3-4) مع الفوارق بين قدرة الفيل وحجمه مع الأبابيل وسلاحها المتواضع.
- لون الحصى (كحلية منقطة، أو خذ البرش): وهو ما كان مشتملاً على ألوان متعددة وكأن المواجهة مع الباطل والشياطين المتنوعة ليست بأسلوب ووجه واحد. فالمطلوب تحصيل ألوان المعرفة المختلفة لمواجهة أساليب التضليل وأشكاله لكي يحقق التفوق والظفر والنصر ولا يكون طعمة للأباطيل.
- بُنية الحصى (يكره أن يكسر من الحجارة): إنّ طبع الإنسان المادي يميل إلى تحصيل حاجاته بأقل جهد مبذول. وعند الحديث عن كيفية تحصيل الحصى نجد توجيه الإمام الصادق عليه السلام: "... ويكره أن تكسر من الحجارة كما يفعل كثير من الناس.."(3). فالأسلوب السهل ربما يوفر الجهد على الإنسان، ولكنه قد لا يحقق المبتغى. ولا ينسجم مع الأهداف الحقيقية للبشر. وإن أهل الحق يسعون لتحقيق الإرادة الإلهية بكل أناة ودقة "... أنه كان يلتقط حصى الجمار التقاطاً كل حصاة منها بقدر الأنملة، ويستحب أن تكون زرقاً أو كحلية منقطة..."(4).
*كره الصمّ من الحصى
قد يتوهّم الإنسان أنّ ما هو صلب هو السلاح الأمضى في المواجهة، دون أن يلتفت إلى أن مثل هذا قد يرتد على صاحبه فيقتله، بل إنّ تنوّع الأساليب بحسب مقتضيات الحال قد يحقّق المطلوب. ومن هنا نمتدح أشخاصاً بلين العريكة، ونذمّ آخرين لفظاظتهم ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ﴾ (آل عمران: 159).
- عدد الحصى (في كل مواجهة سبع حصيات): وهذا الرقم له خصوصيّة، خاصة في هذا الموقف. ويمكن أن يكون إشارة إلى مواطن التحدي بين الإنسان وأعدائه، كما نتلمسه من قوله تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ{ (آل عمران: 14)، فما يزين للناس من هذه المفردات التي تشير لها الآية هو موضوع الصراع، ومنافذ الشياطين التي من خلالها قد توقِع الإنسان في حبائلها. عن مولانا الصادق عليه السلام: "... وارمِ الشهوات والخساسة والدناءة والذميمة عند رمي الجمرات..."(5).
تكرار رمي الحصى: بقي أن نعلم أن هذه الحصيات (السبع) لا يتوقف استخدامها على يوم العيد، بل تستخدم في اليومين التاليين أيضاً، وعلى نطاق أوسع. ففي المواجهة الأولى كان الرجم مقتصراً على الجمرة الكبرى (الشيطان الأكبر) والذي يرمز إلى هوى النفس انسجاماً مع الحديث النبوي: "أعدى عدوّك نفسك التي بين جنبيك"(6)، حيث يعتبر جهاد هذه النفس هو الجهاد الأكبر، وبعدها يقوم برجم الجمرات الثلاث في اليوم التالي، الجمرة الصغرى رمز شياطين الجن، والجمرة الوسطى رمز شياطين الإنس، كما أن الجمرة الكبرى رمز شيطان النفس وهواها. ويكرر ذلك ليوم آخر، في إشارة إلى أنه لن يتراجع عن هذا الموقف الذي اتخذه، بل سيستخدم الحقيقة التي بذل بين يديها جهده في طريق العودة إلى الله تعالى. وهو قرار لا بد أن يحمله معه عند عودته لممارسة حياته في المجتمع، بحثاً عن دقيق الحقيقة، عند ذلك يكون لمسعاه معنى، وعندها يكون المسير إلى الله تعالى سعياً في كسب رضاه.
فإذا تحقق كل ذلك، صار الإنسان جاهزاً ليؤدي تكليفه وكان منسك الرمي من منطلق بصيرة ووعي مع استحضار ما يترتب على ذلك من تغييرات في منهجه الحياتي الذي لا يتطلب منه إلّا الثبات والمراقبة والمضي قدماً. وعندها لا تعود عبادة الحج طقوساً خاوية، بل لها طعم عذب ولمناسكها روح... وأي روح.
1- مستدرك الوسائل، الميرزا حسين النوري، ج10، ص58.
2- الكافي، الكليني، ج4، ص224، ح2.
3- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج96، ص275.
4- الكافي، م.س، ج4، ص477؛ في تتمة حديث الإمام الصادق عليه السلام، م.ن.
5- المحجة البيضاء، الفيض الكاشاني، ص207.
6- الوافي، الكاشاني، ج12، ص216.