"إنّ مكّة بلدٌ عظّمه الله وعظّم حرمته، وحفّها بالملائكة قبل أن يخدم شيئاً من الأرض يومئذٍ كلها بألف عام". رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.
وعن الإمام محمد الباقر عليه السلام قال: "بعد الفراغ من الطواف وصلاته جلس أبي – الإمام السجاد عليه السلام – فجاءه رجل شرجع من الرجال طويل وقال: السلام عليك يا ابن بنت رسول الله. أريد أن أسألك، فقال له أبي عليه السلام: وعليك السلام، عمّ تسأل؟ قال: أسألك عن بدء هذا الطواف بهذا البيت، لم كان وأنى كان وحيث كان وكيف كان؟ فقال له أبي: من أين أنت؟ قال من أهل الشام. قال أين مسكنك؟ قال في بيت المقدس. قال فهل قرأت الكتابين – التوراة والإنجيل- قال الرجل: نعم. قال أبي عليه السلام: يا أخا الشام.
احفظ ولا تروينّ عني إلاّ حقاً: أما بدء الطواف بهذا البيت فإنّ الله تبارك وتعالى قال للملائكة إنّي جاعل في الأرض خليفة، فقالت الملائكة: أي ربّ أخليفة من غيرنا ممن يفسد ويسفك الدماء ويتحاسدون ويتباغضون؟ أي رب اجعل ذلك الخليفة منا فنحن لا نفسد فيها، ولا نسفك الدماء ولا نتباغض ولا نتحاسد ونحن نسبح بحمدك ونقدّس لك ونطيعك ولا نعصيك.
فقال الله تعالى: إنّي أعلم ما لا تعلمون. قال فظنت الملائكة أنّ ما قالوا ردّ على ربّهم فلاذوا بالعرش، ورفعوا رؤوسهم يتضرعون ويبكون إشفاقاً لغضبه وطافوا بالعرش. فوضع الله تحت العرش بيتاً على أربع أساطين من زبرجد وغشّاهم بياقوتة حمراء، وسمى ذلك البيت الفراج. ثمّ قال الله تعالى للملائكة: طوفوا بهذا البيت ودعوا العرش، قال: فطافت الملائكة بالبيت، وذلك هو البيت المعمور.
أسماء مكّة:
لمكّة أسماء كثيرة سنذكر بعضاً منها الإسم المشهور هو مكّة وبكّة ﴿إنّ أول بيتٍ وضع للناس للذي ببكّة مباركاً﴾ قالوا إن مكّة وبكّة اسمان لمسمى واحد ولأنّ الميم والباء متقاربان في المخرج تلفظ تارةً بالميم وأخرى بالباء. أمّا معنى كلمة "مكة" فهو أنّها تملك الذنوب مكاً أي تزيلها كلها كقولك: أمتك الفصيل ضرع أمّه، إذا امتصّ ما فيه من اللبن.
أمّا بكّة فاشتقاقها من البك أي الدفع والازدحام يقال بكه يبكه بكاً إذا دفعه وزحمه ولهذا قيل: سميت مكة بكة لأنّهم يتباكون فيها أي يزدحمون في الطواف. من أسمائها أيضاً أم رَحِمْ، والبشاشة، والحاطمة تحطم من استخفّ بها، وأم القرى قال تعالى: ﴿لتنذر أم القرى ومن حولها﴾ وسميت بهذا الاسم لأنّها أصل كلّ بلدة وقرية فإنّها خلقت قبل أي بيت على وجه الأرض، وهي تزار من كلّ بلاد الأرض ونواحيها.
الكعبة اسم آخر قال تعالى "جعل الله الكعبة البيت الحرام" وهذا الاسم يدلّ على الإشراف والارتفاع وسمي الكعب كعباً لإشرافه وارتفاعه على الرسغ في القدم، ولما كان البيت الحرام أشرف بيوت الأرض وأرفعها عند الله وأقدمها زماناً وأكثرها فضيلة سُمِيَ بهذا الاسم. كذلك البيت العتيق قال تعالى: ﴿ثم محلها إلى البيت العتيق﴾ و﴿ليطوفوا بالبيت العتيق﴾ أي القديم فهو أقدم بيوت الأرض، بل يُقال إنّ الله خلقه قبل خلق الأرض.
المسجد الحرام من الأسماء أيضاً "سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى" كذلك البلد الأمين "وهذا البلد الأمين"، المقدسة، الطيبة، الحرم، قرية النمل كلّها من أسماء مكة المكرمة. "حرسها الله من كلّ مكروه".
* تاريخ مكة أو الكعبة:
إنّ أول بيت بني أو وضع هو في مكة كما عن الإمام الباقر عليه السلام في الحديث الذي مرّ أول الكلام، أيضاً عن الإمام الباقر عليه السلام عن آبائه عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إنّ الله تعالى بعث ملائكته فقال ابنوا لي في الأرض بيتاً على مثال البيت المعمور، وأمر الله تعالى من في الأرض أن يطوفوا به كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور، وهذا كان قبل خلق آدم.
أيضاً هناك رواية تقول إن آدم عليه السلام لما هبط إلى الأرض، وبعد أن تاب الله عليه أمره أن يسير إلى مكّة، فطويت له الأرض حتّى انتهى إلى مكّة، وكان قبل ذلك قد اشتدّ بكاؤه وحزنه لما كان فيه من عظيمة الرزية والمصيبة حتى إنّ الملائكة كانت تحزن لحزنه وتبكي لبكائه فعزاه الله سبحانه وتعالى بخيمة من خيام الجنة وضعها له بمكة في موضع الكعبة، ثم تذكر الرواية أنّ الخيمة هذه بقيت مكانها حتّى قبض الله آدم فرفعها الله تعالى.
وقيل رفعت وقت طوفان نوح.
ولا تضارب بين الروايات التي تقول إنّ الله وضع البيت المعمور قبل آدم والروايات التي تقول أنّه سبحانه وضعها من أجل أن يتوب على نبيه آدم عليه السلام، وبهذا يكون المقصود بالوضع الأول المتقدّم على الوضع الثاني طولاً لا عرضاً وبهذا لا تضارب بين الروايات.
وبعد آدم عليه السلام بنى بنوه مكان الكعبة بيتاً بالطين والحجارة، فلم يزل معموراً حتّى زمن نوح عليه السلام حيث فاض التنور وخفى مكان البيت العتيق.
ولما بعث الله تعالى إبراهيم الخليل على نبينا وعليه أفضل السلام، طلب أساس الكعبة فلما وصل إليه ظلل الله مكان البيت بغمامة فكانت حفاف البيت الأول ثمّ لم تزل راكدة على حفافه تُظل إبراهيم عليه السلام وتهديه مكان القواعد حتّى رفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾.
* مكة واليهود
إنّ اليهود تفاخروا على المسلمين فقالت اليهود: بيت المقدس أفضل وأعظم من الكعبة لأنّه مهاجر الأنبياء، ولأنّه في الأرض المقدّة. وقال المسلمون الكعبة أعظم فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وآله فنزل ﴿إنّ أول بيتٍ وضع للناس للذي ببكّة مباركاً وهدى للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخل كان آمناً﴾ وليس ذلك في بيت المقدس.
لقد شكّل اليهود، الشرذمة المؤلفة من كلّ شيطان مارد، الخطر على الإسلام منذ انطلاقته الأولى في مكة المكرّمة حيث كانت مؤامراتهم الدينية تحاك للإسلام والمسلمين ولم يتركوا فرصة إلاّ وكادوا فيها بالإسلام وبالمسلمين. لكنّ الله بالمرصاد إنّهم يكيدون كيداً وأكيد كيداً.
إنّ النبي محمداً صلّى الله عليه وآله كان على يقين صادق وتام وعلم واضح وضوح الشمس ومعرفة كاملة بمخاطر هذه الشرذمة الحاقدة لذلك نجده منذ اللحظة الأولى من أداء رسالته الهادية المقدّسة، دعا المسلمين إلى قتالهم ونفيهم ومقاطعتهم وإخراجهم من كلّ بيت وكوخ وقطر وبلد، حتّى أخرجهم من الجزيرة العربية.
لكن وللأسف نرى أنّ الحكام المتسلطين على الأماكن المقدّسة في مكة والمدينة قد أعادوا مجد اليهود وعزهم ورفعتهم إلى تلك البلاد المقدّسة وأصبحوا يرتعون إلى تلك المناطق التي طهرت من رجزهم فترة طويلة. لكن سيأتي اليوم الموعود ويخرجون كما أخرجهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أذلاّء هم ومن أدخلهم إلى تلك البلاد المقدّسة.