الحمد لله رب العالمين والصلاة على رسوله النبي الأمين وعلى آله الميامين وأصحابه المنتجبين. والسلام على جميع عباد الله الصالحين.
قال الله الحكيم: ﴿وإذ بوّأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئاً وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركّع السجود﴾ "الحج/26".
شاءت الإرادة الإلهية النافذة أن تجمع المؤمنين مرّة أخرى في منبثق التوحيد، ومشهد رحمة رب العالمين وفضله، وحول محور كعبة القلوب، وفي ساحة قبلة أرواح المسلمين في العالم، فتفوّق النداء الملكوتي: ﴿وأذّن في الناس بالحج﴾ على كلّ الفواصل الطبيعية منها والمفتعلة المفروضة بين الأخوة المسلمين، ودفع مجاميع القلوب النابضة بالإيمان والحب والآمال المشتركة نحو مركز التوحيد ووحدة الأمة.
منذ سنوات طوال سعت يدُ الجهل والعناد إلى أن تفصل الأسرة الإسلامية الكبرى عن جذورها العقائدية، وأن تفصم في الوقت نفسه الأواصر والروابط الإيمانية فيما بينها. ولكن فريضة الحج السنوية تؤدي دورها في تغذية الأسرة العريقة الأصيلة بدرس التوحيد والوحدة.. وفي كلّ سنة تتفتح أزاهير جديدة، تزيد عما مضى، مبشرة بعودة ربيع الإيمان، والحياة في ظل الدين، والتآلف والتوادد بين المسلمين.. ومحبطة عمل الأعداء وما كانوا يأفكون.
إنّها لمعجزة الحج أن نرى الوشائج الفكرية والعاطفية والإيمانية بين الشعوب المسلمة لم تنقطع أبداً، وأنّ التفاعل بين هذه الشعوب يزداد بإطراد على الرغم من النزاعات والصراعات التي تجابهت فيها مراراً حكومات المسلمين.
* أسرار الحج
أسرار الحج ورموزه أكثر من أن يحتويها مقال، غير أن بينها ثلاث خصائص بارزة تستطيع كلّ عين مستقصية أن تتعرّفها في أوّل نظرة.
-الأولى: أنّ الحجّ هو الفريضة الوحيدة التي دعا رب العالمين إلى أدائها جميع أفراد المسلمين – من استطاع إليه سبيلا – من جميع أرجاء العالم ومن خلوة البيوت ومحال العبادة، صوب نقطة واحدة، وفي أيام معلومات، ليربط بينهم في ألوان من السعي والحركة والسكون والقيام والقعود: ﴿ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ "البقرة/199".
-الثانية: إنّ الهدف الأسمى في هذا العمل الجماعي والعلني هو ذكر الله أي العمل القلبي والنفسي: ﴿لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِير﴾ "الحج/28".
-الثالثة: إنّ الحجّ يعرض على شاشته المضيئة تصويراً كاملاً لحياة الإنسان الموحّد، وبعمل رمزي، يُلقّن المسلمين درس الحياة المتحرّكة الهادفة.
منذ ورود الميقات وحضور ساحة الإحرام والتلبية والتروك حتّى الطواف حول الكعبة والسعي بين الصفا والمروة والوقوف في محشر عرفات والمشعر وما فيه من ذكر وتضرّع وتعارف، وحتّى وصول منى وأضحيتها ورمي جمارها وحلقها، ثمّ العودة إلى الطواف والسعي.. يتلقّى المسلم فيها جميعاً دروساً واضحة بيّنة في الحركة الهادفة والجماعية والعارفة في ساحة التوحيد وعلى درب الحياة وحول محور "الله" سبحانه.
الحياة في منهج الحج سير دائم، بل صيرورة مستمرّة نحو الله، والحجّ هو الدرس العملي الحيّ البناء الذي إن وعيناه يرسم لنا طريق حياتنا في صورة عملية مشرقة.
ميعاد جماعي ينعقد كلّ عام كي يتعلّم المسلمون في ذلك الجو المفعم بالوحدة والتفاهم، وفي ظلال الذكر الإلهي، درب الحياة واتجاهها، ثمّ يعودون إلى أصقاعهم وأهلهم، وفي الأعوام التالية تقدّم مجموعات أخرى وتعود، وتتعلّم وتتزوّد، وتتكلّم وتعمل، وتسمع وتتدبّر لتصل الأمّة جميعاً في النهاية إلى ما أراده الله وعلّمه الدين.
تطلع الفرد المسلم إلى ساحة حياة الأمة الإسلامية بكل ما فيها من عظمة تطلّعاً يتسامى على القوميات والعنصريات والقبليات والإقليميات،وتطلّعه إلى أعماق وجوده، وتلقنه طريق الحياة واتجاهها وأسلوبها على نحول يليق بكرامته، كلّ ذلك يفعله في ظل ذكر الله.
وهذا هو ينبوع المعرفة الذي يُغدق كلّ عام في موسم الحج بعطائه الفيّاض الأبدي على الجموع البشرية المحتشدة في حرم الأمن الإلهي. وكلّ من فتح وعاء ذهنه وقلبه، فهو من زلال المعرفة هذا في ارتواء.
ثمّة مساعٍ بُذلت اليوم أيضاً لإضفاء الطابع الفردي على فريضة الحج، أيّ أنّ كلّ حاج يعكف على عبادته وتضرّعه إلى الله سبحانه. دعونا عن أولئك الغافلين الذين يرون الحج تجارة وسفر سياحة، الحج بخصائصه البارزة التي لا تحتويها مُجتمعة أيّة فريضة إسلامية أخرى أسمى بكثير من هذا الفهم الضيّق وهذه النظرة القاتمة الخاطئة.
أكبر شخصية – في عصرنا – أماطت ستار الأوهام عن الحجّ وأوضحت أسراره لدى جمع عظيم من المسلمين على المستوى النظري والعملي، إمامنا الراحل الكبير. فقد رفع نداء الحج الإبراهيمي ودعا الخلق إلى هذا الحج، وأبلغ أسماع الخافقين مرّة أخرى دعوة ﴿وأذّن في الناس بالحج﴾.
الحج الإبراهيمي هو نفسه الحج المحمّدي الذي تحتلّ فيه الحركة نحو التوحيد والاتحاد مكان الروح والصدارة في كلّ المناسك والشعائر.
إنّه حجّ يفيض بالبركة والهداية على الأمة الواحدة ويشكّل دعامتها الأصيلة في حياتها ونهوضها.. حجّ مفعم بالمنافع وطافح بذكر الله.. حج تتحسّس فيه الشعوب المسلمة بوجود الأمة المحمدية الكبرى وبانتمائها إلى هذه الأمّة، وتستشعر الشعوب روح الأخوة والتقارب بينها فتنجو من كلّ إحساس بالضعف والعجز والخور والهزيمة.
الحجّ الإبراهيمي هو الذي فيه يتحرّك المسلمون من التفرقة إلى التجمّع ويطوفون حول الكعبة.. مبنى التوحيد الخالد ورمز البراءة والنفرة من الشرك والوثنية.. عن معرفة بمعناها الرمزي، ويصلون من ظاهر المناسك وهيكلها إلى باطنها وروحها، ويتزوّدون منها لحياتهم وحياة أمّة الإسلام.
وها أنا ذا أغتنم فرصة التدبّر في مناسك الحج، مؤملاً رحمة الله وهدايته وداعياً لكم أيّها الأخوة والأخوات من جميع أرجاء العالم الإسلامي، أن يكون حجكم مقبولاً معطاءً، مذكراً إيّاه بأمور يعود الانتباه إليها بالنفع على كلّ أفراد المسلمين:
* أخطر القوى
1-الموضوع الأول يرتبط بالتوحيد الذي يشكّل روح الحجّ الأساسية ومضمون كثير من أعماله ومناسكه. التوحيد بمفهومه القرآني العميق يعني التوجّه والحركة نحو الله ورفض الأصنام والقوى الشيطانية. أخطر هذه القوى في داخل الكائن البشري هي النفس الأمارة والأهواء المضلّلة الدنيئة.
وعلى ساحة المجتمع والعالم هي تلك القوى الاستكبارية المشاغبة المفسدة المسيطرة اليوم على حياة المسلمين والمهيمنة بسياستها على جسم وروح كثير من الشعوب الإسلامية بأساليبها الشيطانية. مراسيم البراءة في الحج إنّما هي إعلان البراءة من هذه القوى. كلّ عين بصيرة ونظرة معتبرة تستطيع أن تشاهد في حياة المجتمعات الإسلامية مظاهر تسلّط تلك القوى أو سعيها للسيطرة على البلدان الإسلامية. في بعض هذه البلدان تخضع السياسة والاقتصاد والعلاقات الدولية والمواقف تجاه حوادث العالم لتأثير القوى السلطوية وعلى رأسها أميركا وتتماشى معها.
استشراء الفساد وإسباغ الصفة الرسمية على الفحشاء والمحرمات الشرعية في كثير من هذه البلدان إنّما هو بتأثير من ما تمارسه تلك القوى من سياسات شيطانية. الواجب الذي يفرضه الحج ومناسكه وشعائره التوحيدية على المسلم الحاج، هو إعلان البراءة من هذه كلّها.. وهذه أول خطوة على طريق تجسيد الإرادة الإسلامية في دحر هذه الظاهرة الشيطانية وإحلال حاكمية الإسلام والتوحيد في جميع المجتمعات الإسلامية.
* اتحاد وتوحّد
2-والموضوع التالي يرتبط باتحاد المسلمين وتوحدهم، وهو ما يشكل مضموناً بارزاً آخر في مناسك الحج. منذ أن دخل الاستعمار الأوروبي في البلدان الإسلامية كانت التفرقة بين المسلمين من المبادئ الحتمية في سياسة المستعمرين.. متوسلين بسلاح الطائفية تارة، والنعرات الإقليمية والقومية تارة، وبغيرها أحياناً.
ومع كلّ نداءات المصلحين ودعاة الوحدة، فإن مُدية الأعداء هذه لا تزال تنزل بجسد الأمة الإسلامية مع الأسف بعض الضربات والجراحات. إثارة الاختلافات بين الشيعة والسنّة والعرب والعجم، والآسيويين والأفارقة، وتضخيم القوميات العربية والطورانية والفارسية – وإن ابتدأت على يد الأجانب – فهي اليوم تستمر مع الأسف على يد أفراد من بيننا يعبّدون طريق العدو عن سوء فهم أو عن عمالة للأجانب. هذا الانحراف يبلغ من الفظاعة أحياناً للتفريق بين المذاهب الإسلامية أو الشعوب والأقوام المسلمة، أو أن يُعلن بعض أنصاف العلماء بصراحة فتوى تكفير بعض الفرق الإسلامية ذات الماضي المجيد في التاريخ الإسلامي. يجدر بالشعوب المسلمة أن تتعرّف على الدوافع الخبيثة لهذه الأعمال، وأن ترى الأيدي التي وراءها.. يد الشيطان الأكبر وأيدي أذنابه، وأن تتصدّى لفضح الخائنين.
3- المسألة الهامة التي تستحق أن يتفهمها المسلمون وأن يستشعروا مسؤولية مواجهتها، هي ما يشهده العالم اليوم في جميع أرجائه تقريباً من هجمة تآمرية تشنّها القوى الاستكباريّة على الإسلام والمسلمين. هذه الهجمة – وإن لم تكن بجديدة وكان لها جذور معروفة في تاريخ الاستعمار الأوروبي – فإنّه يمكن القول إنّ أساليبها المتنوّعة، وصراحتها، وقسوتها الفظيعة في بعض المواضع لم يسبق لها نظير، بل هي من ظواهر هذا العصر.
لو ألقينا نظرة على الأوضاع الراهنة للعالم الإسلامي لتبيّن لنا سبب هذه الظاهرة، أعني ظاهرة تصاعد الهجمة على الإسلام وصراحة الهجوم.. السبب ليس إلاّ يقظة المسلمين. في الواقع أنّ المسلمين في العقد الأخير أو العقدين الأخيرين بدأوا بنهضة حقيقية عميقة في شرق العالم الإسلامي وغربه بل حتّى في البلاد غير الإسلامية وأجدر أن نسميها نهضة "تجديد حياة الإسلام".
ها هو ذا جيل الشباب المتعلّم المتحلّي بمعارف العصر لم ينسَ إسلامه كما كان يتوقّع المستعمرون بالأمس والمستكبرون اليوم، بل على العكس من ذلك اتجه إلى الإسلام بإيمان متوقّد، مستفيداً من تطوّر المعارف البشرية ليصبح أكثر نضجاً وعمقاً، باحثاً عن ضالته في هذا الدين.
قيام الجمهورية الإسلامية في إيران وازديادها باستمرار استقراراً وثباتاً واقتداراً يمثّل قمّة هذه النهضة الفتيّة العريقة، وكان له بنفسه أكبر الدور في توسيع نطاق صحوة المسلمين.
هذا هو الذي يدفع بجبهة الاستكبار العالمية، التي كانت تتحاشى دائماً أن تتظاهر بمحاربة عقائد الشعوب ومقدساتها، إلى أن تعلن الحرب على الإسلام، بكل السُبُل الممكنة، بل وبالقسوة والفظاظة أحياناً.
في أميركا والبلدان الأوروبية نرى رؤساء وسياسيين كباراً عديدين صرّحوا لمرّة واحدة على الأقل بأن اتساع الإيمان الإسلامي يشكّل خطراً كبيرة وأكّدوا ضرورة محاربته.
كلّما ازداد اتجاه عامّة الشباب المسلم إلى الإيمان والعمل الإسلامي اتساعاً، ازدادت هذه التصريحات الدالة على الاضطراب والعداء وضوحاً، وبلغ الأمر أنّ رؤساء وساسة بعض البلدان الإسلامية الذين كانوا يُخفون دائماً عداءهم للإسلام تحت غطاء من النفاق، هم أيضاً قد احتذوا بأسيادهم الأميركان والأوروبيين فراحوا يتحدّثون علناً وصراحةً عن خطر الإسلام، وخطر الإيمان المقدّس للشعوب التي يحكمونها.
محاربة الصحوة الإسلامية على الصعيد العالمي لها أشكال عديدة؛ في الجزائر تُدلي الأكثرية الساحقة من الجماهير في انتخابات حرّة وديمقراطية تماماً برأيها لصالح الجبهة الإسلامية، فيأتي انقلاب فظّ يلغي الانتخابات ويلقي المنتخبين في السجون ويقمع الجماهير. وعندها تتنفس الصعداء القوى المستكبرة الأميركية والأوروبية – معلنة دعمها الكامل للانقلابيين مصرحة بدورها التآمري.
في السودان تصل الجماعات الإسلامية بدعم الجماهير إلى سدّة الحكم، فيبدأ الغرب بألوان الاستفزاز مهدّداً هذا البلد من داخل حدوده وخارجها باستمرار.
وفي فلسطين ولبنان يُقمع الفلسطينيون المسلمون على يد الصهاينة الغاصبين بأبشع وجه، ويُنزل بهم أشد ألوان العذاب، وفي الوقت ذاته تُغدق أميركا مساعدتها على أولئك القتلة المتوحشين الجلادين وتتهم أولئك المسلمين المظلومين أو مدافعيهم اللبنانيين بأنّهم إرهابيون.
في جنوب العراق حيث انتهج قطاع كبير من الشعب العراقي الجهاد ضدّ النظام البعثي بدوافع وشعارات إسلامية، يتعرّض من قِبل ذلك النظام لأبشع هجوم، والدوائر الأميركية والغربية التي بينت بوضوح دوافعها في اتخاذ موقف مقتدر تجاه صدام في قضايا أخرى، تظهر هنا ساكتة سكوتاً ينمّ عن الرضا والتشجيع.
وفي كشمير والهند، يعتدي الهندوس عن تعصّب أعمى جاهل وبالاستفادة من تجاهل الحكومة وأحياناً من مساعدتها، على أعراض المسلمين وأرواحهم ومقدساتهم فلا يرون من أمريكا والغرب إلاّ عدم الاكتراث وابتسامة اللامبالاة.
في مصر تتعرّض طلائع المثقفين المسلمين لمطاردة وحشية حاقدة من قِبل النظام الفاسد العديم الكفاءة الحاكم في ذلك البلد والحكومة الذليلة الحقيرة المسيطرة على ذلك البلد الكبير تحظى بتشجيع أمريكي على الصعيدين المالي والأمني، وفي طاجكستان تتعرّض أكثرية الجماهير المسلمة المتطلّعة إلى حياة إسلامية لقمع حثالات النظام الشيوعي بشدّة، فيتشرّد جمع غفير منهم من بيته ومأواه، والغرب بكلّ مخاوفه من عودة الشيوعيين في الاتحاد السوفياتي السابق، يغتنم حركة هؤلاء ويقف مقارناً بين الإسلام والشيوعية، ويتخذ علناً جانب أعداء الإسلام.
في أميركا وأوروبا يتعرّض المسلمون والجماعات الإسلامية للإهانات والتّهم، وتُحظر في مواضع مظاهر الالتزام الإسلامي كحجاب النساء.
إهانة الإسلام إهانة سافرة في قالب كتاب محظور وبقلم كاتب مهدور الدم تلقى دعماً علنياً من زعماء الأنظمة الأوروبية، بل ويعمد النظام البريطاني متمثلاً في زعيمه السيّئ السمعة ذي الملف الأسود إلى الاجتماع بذلك الكاتب الأجير التافه.
وأفظع من ذلك كلّه مأساة إبادة المسلمين في البوسنة، بشكل لم يسبق له نظير. أكثر من عام والصرب العنصريون – وبالتعاون مع الكراوتيين أخيراً- يرتكبون أبشع وأفظع ألوان القتل والظلم والقسوة بحقّ المسلمين وهم أصحاب البوسنة والهرسك الأصليون، والغرب وأميركا لم يمدّوا إليهم يد المساعدة ولم يحولوا دون جرائم الصرب، وليس هذا فحسب، بل إنّهم بالاستفادة من إمكانات مجلس الأمن يحولون دون وصول السلاح إلى المسلمين المظلومين، ثمّ أطبقوا عليهم الحصار بإرسال قوات الأمم المتحدة.
على المسلمين اليوم وفي المستقبل أن يعلموا أن أميركا والدول الأوروبية الكبرى مسؤولة مباشرة في مأساة البوسنة.
فيما مضى من عام من المذابح أطلق ركام من الكلام الفارغ وأعطيت الوعود الكاذبة، ولكن لم يحولوا دون مقتل واحد من آلاف من قُتل ظلماً من أهل تلك الديار، وأكثر من ذلك فقد منعوا أن يتزوّد هؤلاء بقدرة على الدفاع.
* المقاومة فقط
هذه صورة مقتضبة عن عداء الغرب وأميركا للإسلام والمسلمين في عصرنا. لا الاستعطاف ولا الاستسلام ولا المحادثات ولا أيّ طريق من الطرق التي يقترحها البعض عن بساطة على المسلمين، تستطيع أن تعالج الداء وتنقذ المسلمين.
العلاج يكمن في شيء واحد دون غيره: اتحاد المسلمين، والتمسّك بالإسلام وقيمه ومبادئه والمقاومة أمام الضغوط وتضييق الساحة – في المدى البعيد – على الأعداء.
والعالم الإسلامي اليوم ينظر بعين الأمل إلى الشباب الغيارى المعبئين في جميع أرجاء العالم الإسلامي ليُدافعوا عن كيان الإسلام ويؤدّوا دورهم التاريخي.
4- المسألة الهامّة الأخرى التي يقتضي تأكيدها، هي أنّ الاستكبار بكلّ تدابيره الشيطانية وبكلّ ما توسّل به من قوّة وألاعيب سياسية ودعاوى كاذبة لم يستطع، ولن يستطع أبداً، أن يصدّ تيار الصحوة الإسلامية المتنامي وحركة التوجه إلى الإسلام. ما بذلته أميركا وبقية الدول المستكبرة وعملائها المحليين من نشاط في مختلف الجوانب السياسية والأمنية وأكثر من ذلك الإعلامية، ضدّ النهضة الإسلامية في البلدان المختلفة، ومن ذلك ضدّ النظام المقدّس في الجمهورية الإسلامية في إيران، خلال الأعوام الأخيرة، كان واسعاً جداً لم يسبق له نظير.
وفي هذا الخضمّ أدّى النظام الصهيوني، كذيل أميركا في المنطقة، دوره كما كان متوقعاً على أدنى مستويات الرذالة والخبث.
الحسابات الماديّة العاديّة تقتضي أن تضعف النهضة الإسلامية في البلدان الإسلامية أو تقتلع من جذورها نتيجة هذه المساعي الواسعة المبذولة بدافع استكباري وعن حقد وعناد.
ولكنّ الأمر على العكس من ذلك تماماً، فالكلّ يشهد أنّ هذه النهضة تزداد سعة وعمقاً باستمرار. يمكن وضع الأصبع الآن على العديد من البلدان الإسلامية التي لو جرت فيها انتخابات كالتي جرت قبل عامين في الجزائر، فإنّ الأحزاب أو العاملين الإسلاميين فيها سينالون أكثرية آراء الجماهير، مع أنّ نشاط الجماعات الإسلامية محظور سياسياً وإعلامياً في أكثر هذه البلدان.
في هذه السنوات بالذات نرى الأرض الفلسطينية المغتصبة تصاعد نضال الجماهير بشعارات إسلامية ومن مراكز المساجد، وهو يضيّق الخناق على الصهاينة.
في هذه السنوات بالذات نرى الجماعات المناضلة الإسلامية في لبنان تحقّق نجاحاً باهراً حتّى في الانتخابات البرلمانية وكسب المواقع الشعبية. وفي هذه الفترة الزمنية ذاتها نرى الجمهورية الإسلامية، التي كان يتوقّع البعض عن سذاجة إنّها تصل إلى طريق مسدود أو تتراجع عن مبادئها وأهدافها، تحثّ الخطى بسرعة أكثر من المتوقع نحو الإمام مع الإصرار على الالتزام التام بمبادئها الثورية.
* العاقبة للمتقين
أتقدّم إلى كلّ الأخوة والأخوات من أبناء الأمة الإسلامية في كلّ مكان، مؤكّداً أنّ خطّة العدو الكبرى تقتضي بثّ اليأس وزرع التشاؤم بينكم تجاه المستقبل، ويكفي أن لا يدع أي مسلم واعٍ لليأس طريقاً إلى قلبه. لا شيء يسمح لنا بالركون إلى اليأس.
لو أنّ العدو كان قادراً على إبادة هذه الحركة الإلهية لاستطاع على الأقل أن يحول دون تناميها. وكلكم ترون أنّه لم يستطع ذلك. السنن الإلهية والحقائق الملموسة الخارجية تبشّر بغدٍ مشرق للنهضة الإسلامية الحديثة. والقرآن يكون مراراً: "والعاقبة للمتقين".
5-الإعلام الحديث ذو التغطية العالمية، دون شك أمضى أسلحة الاستكبار، عدد مراكز البثّ الصوتي والتصويري والصحفي التي تكرّس أكثر جهدها لمعاداة الإسلام كثير، ويزداد باطراد. ثمّة خبراء أجراء منهمكون فقط في دبيج التعليقات والأخبار والتحليلات من أجل تضليل أذهان مستمعيهم وإعطاء صورة محرّفة ممسوخة عن النهضة الإسلامية والشخصيات الإسلامية الكبرى، والجمهورية الإسلايمة خلال الأعوام التي تلت انتصار الثورة الإسلامية حتّى يومنا هذا تواجه باستمرار وبشكل متزايد مثل هذا الإعلام المعادي.
ولا بدّ من القول إنّ هذه الخطّة التي اختطها العدو مقابل الحركة الإسلامية الأصيلة المنطلقة من الفطرة والحاجة الإنسانية، لم تحظَ بكثير من النجاح ولم تحقّق ما استهدفه العدو. ولا أدلّ على ذلك من تنامي أمواج الدعوة الثوري التي أطلقها الإمام الراحل العظيم في أرجاء العالم الإسلامي، وانتشار فكره واسمه وتعاليمه وصورته ومعالمه في شرق العالم وغربه، رغم كلّ الإعلام الكاذب والقول الباطل الذي أطلق ونُشر للإساءة إلى هذا الوارث للأنبياء بشخصيّته الملكوتية. ومع هذا لا بدّ من الإذعان إلى أنّ العامل الهام في حفظ سلامة الشعوب المسلمة وسداد فكرها هو ما ينهض به العلماء والمثقفون والكتّاب والفنّانون والشباب العالم والواعي من نشاط في حقل التوعية.
وفي هذا المجال يتحمّل الجميع وخاصّة علماء الدين الملتزمين مسؤوليات كبرى. العدو بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران حتّى اليوم، ألقى قائمة من الاتهامات على إيران الإسلام. ونرى توجيه نفس هذه التهم اليوم لكلّ النهضات الإسلامية في جميع بقاع العالم.. تهمة التعصّب والجمود الفكري التي يطلقون عليها اسم "الأصولية" .. تهمة الإرهاب.. تهمة نقض حقوق الإنسان.. تهمة معاداة الديمقراطية.. تهمة إهمال حقوق المرأة.. تهمة معاداة السلام والنزوع إلى الحرب.. وقليل من الإنصاف يكفي لأن يتضح لكلّ شخص كذب هذه التهم ووقاحة من يطلقها.
إيران الإسلام تُتهم بمعارضة الديمقراطية بينما هي بعد خمسين يوماً على انتصار الثورة الإسلامية الكبرى وحتّى أربعة عشر شهراً من ذلك التاريخ أجرت استفتاءين شعبيين عامين اختار الشعب في أحدهما الجمهورية الإسلامية نظاماً سياسياً لبلده، وفي الثاني صوّت للدستور، كما جرت ثلاثة انتخابات، انتخب الشعب فيها على الترتيب أعضاء مجلس الخبراء لتدوين الدستور، ورئيس الجمهورية وأعضاء مجلس الشورى الإسلامي، والانتخابات الحرة تجري حتّى اليوم باستمرار باشتراك حماسي جماهيري لتعيين رئيس الجمهورية وأعضاء المجلس في الموعد القانوني المقرّر.
وتهمة الإرهاب يُطلقها على إيران الإسلام من تنال منهم الحكومة الإرهابية الصهيونية أكثر الدعم، ومن احتضنوا في كنفهم المجموعات الإرهابية الإيرانية المعادية للثورة، ومن عمد أجراؤهم داخل إيران الإسلام مئات المرات إلى تفجير القنابل وقتل الآلاف من الناس العاديين والعناصر الثورية والرجال والنساء والأطفال الأبرياء.
معاداة السلام ينسبها إلى الجمهورية الإسلامية من فرضوا على إيران ثمانية أعوام من الحرب بتشجيعهم النظام العراقي ودفعه، مغدقين على ذلك النظام، الذي كان نظامهم المحبوب بسبب هجومه على إيران الإسلام، ألوان الدعم والمساعدات.
تهمة نقض حقوق المرأة يطلقها من لا يستطيع أن يرى مكانة المرأة الإيرانية السامية، حيث تشارك في أرقى نشاطات البلد مع حفظ حجابها وحدّها الشرعي، ويرون أن الوصفة المطلوبة لحياة المرأة الاجتماعية تنحصر في الابتذال المهيمن على علاقة المرأة والرجل والاستثمار البشع للمرأة في المجتمعات الغربية.
تهمة نقض حقوق الإنسان تُطلقها على إيران أنظمة ترتكب أفظع الانتهاكات وأكبرها بشأن حقوق الإنسان أو تمهد لارتكابها.
هل نُقضت حقوق الإنسان في العالم الحديث كما نُقضت في البوسنة؟ أليس نقض حقوق شعب بكامله مثل الشعب الفلسطيني نقضاً لحقوق الإنسان؟
إسقاط طائرة مدنية إيرانية بيد أميركا في سماء الخليج، ظُلمُ السود الأميركيين، دعمُ الانقلاب في الجزائر، دعمُ النظام الفاسد المصري، الإحراق الجماعي لمجموعة من الأميركيين. أليست هذه وأمثالها استهانة بحرمة الإنسانية ونقض حقوقها؟
هل هذه الحكومات، التي تنتهك حقوق الإنسان صراحة أو تنظر إلى المنتهكين ببرودة ولا مبالاة بل بعين الرضى والتشجيع أحياناً، هي مستاءة حقاً مما تدعي أنّه نقضٌ لحقوق الإنسان في إيران الإسلام؟
الحقيقة أنّ هؤلاء الذين يطلقون التهم، ومن متزعميهم أميركا التي افتعلت أخيراً ضجّة جديدة مستندة إلى هذا السلاح الإعلامي الصدئ المتهرئ، يعلمون جيداً أنّهم يطلقون كلامهم جزافاً. إنّ الذي لا يستسيغونه من الجمهورية الإسلامية ليس هذا، بل هو شيء آخر تقتضي مصلحتهم السياسية أن لا يعلنوه صراحة، وإن كان تصريحات منظريهم وكتّابهم تنمّ لدى التدقيق عن ذلك.
* ثمانية أسباب
في نظام الجمهورية الإسلامية ما يثير سخط أميركا وكلّ مستكبر آخر هو:
-الأول: عدم انفصال الدين عن السياسة والأساس الإسلامي لنظام الجمهورية الإسلامية.
-الثاني: الاستقلال السياسي لهذا النظام أي عدم استسلامه أمام التعنّت المعروف لدى القوى الكبرى.
-الثالث: إعلان طريق مشخّص لحلّ مسألة فلسطين من قِبل الجمهورية الإسلامية يتمثّل في انحلال النظام الصهيوني الغاصب وإقامة دولة فلسطين من الفلسطينيين أنفسهم والتعايش السلمي بين المسلمين والمسيحيين واليهود في فلسطين.
-الرابع: الدعم المعنوي والسياسي لكلّ النهضات الإسلامية وإدانة كلّ إساءة إلى المسلمين في أيّة بقعة من العالم.
-الخامس: الدفاع عن كرامة الإسلام والقرآن والنبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وسائر الأنبياء، ومواجهة مؤامرة نشر الإهانة بهذه المقدسات نظير ما حدث بشأن كاتب الآيات الشيطانية المهدور الدم.
-السادس: السعي لاتحاد الأمّة الإسلامية وإقامة التعاون السياسي والاقتصادي بين الحكومات والبلدان الإسلامية، والتحرك على طريق ترسيخ اقتدار الشعوب المسلمة في إطار "الأمة الإسلامية الكبرى".
-السابع: رفض الثقافة الغربية المفروضة التي تسعى الحكومات الغربية عن تعصّب وضيق نظر إلى إجبار كلّ شعوب العالم على قبولها، والإصرار على إحياء الثقافة الإسلامية في البلدان الإسلامية.
-الثامن: مكافحة الفساد والتحلّل الجنسي الذي اعترفت بعض البلدان الغربية وخاصّة أميركا وبريطانيا أخيراً رسمياً بأبشع ألوان انحرافه بكلّ وقاحة، أو هي عازمة على الاعتراف، والذي تخطّط وتسعى هذه البلدان منذ عشرات السنين إلى إدخال أشكال هذا الفساد إلى البلدان الإسلامية.
هذه هي الأمور التي تدفع أميركا وبطانتها إلى عداء حاقد للجمهورية الإسلامية.
من الواضح أنّ هؤلاء لو أعلنوا صراحة سبب عدائهم وكشفوا عن سبب أحقادهم لزادوا من علو مكانة الجمهورية الإسلامية في أنظار الشعوب الإسلامية التي تعشق هذه المبادئ.
ومن هنا، فإنّ هؤلاء في إعلامهم يتهمون إيران من جهة بأنّها إرهابية وأمثال ذلك ومن جهة أخرى يوحون في تحليلاتهم الكاذبة وأخبارهم المختلفة بأنّ الجمهورية الإسلامية وكأنّها قد تخلّت عن مبادئها واستسلمت لإرادة الأعداء.
كلا هاتين الفكرتين ناشئتان عن طبيعة الاستكبار الماكرة.. مبادئ الجمهورية الإسلامية التي هي ذاتها طريق الإمام والمبادئ الإسلامية معتبرةً في إيران الإسلام رغم أنف الأعداء وتشكل أساس حياتنا الإسلامية والاجتماعية.
حكومة إيران وشعبها حقّقوا إقامة الحياة في ظلّ الإسلام الخالص المحمدي صلى الله عليه وآله وسلم بالتضحية وبذل أعزّ الأرواح، وسوف لا يتخلون عنها في أيّ ظرف من الظروف.
ومبادئ الإمام الخميني "رضوان الله تعالى عليه" وعلى رأسها مبدأ عدم فصل الدين عن السياسة والمقاومة أمام الضغوط المادية الحديثة لعزل الإسلام والقرآن سوف تبقى "بإذن الله" الأصول النابضة بالحياة المستمرّة في الجمهورية الإسلامية.
* وصية:
في الخاتمة أتقدم بتوصية الحجاج الأعزاء أن يغتنموا فرصة الحج أكثر ما يمكن للتعرّف على أخوتهم المسلمين وأوضاع العالم الإسلامي من خلال أقوال المسلمين وأفعالهم، وأن يتبادلوا التجارب والآمال والمنجزات والمهارات، وأن يقربوا حجّهم أكثر فأكثر من الحجّ الذي أراده الإسلام.
وأوصي إخواني وأخواتي من الإيرانيين الأعزاء أن يكونوا بلسانهم وعملهم دعاة ورسل ثورتهم العظمى وبلدهم الكبير وشعبهم المقدام إلى إخوتهم من أبناء البلدان الأخرى.
أوصيهم أن يغتنموا ويستثمروا فرصة المجاورة القصيرة لبيت الله وحرم النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ومواقف الحج القيّمة، وأرض الحجاز المليئة بالذكريات لإحياء قلوبهم بذكر الله ولتوثيق ارتباطهم المعنوي برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعترته الأطهار عليهم السلام وخاصة التوجّه والتوسّل بحضرة ولي الله الأعظم الذي يشمل فيض حضوره المقدّس في موسم الحجّ دون شكّ القلوب العامرة بالمعرفة، وللأنس بالقرآن وتدبّر آياته البيّنات، والدعاء والتضرّع والتوسّل، وهو ما يقرّب الفرد من الله سبحانه وتعالى.
وليدعو الله سبحانه أن يزيل مشاكل المسلمين ويزيد في قوّة وعزّة الإسلام والجمهوريّة الإسلامية، ويُعلي درجات روح الإمام الراحل وأرواح الشهداء الأبرار.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.