الشيخ عبد القادر قطيش
كانت جدرانها تُحدِّثه، وتأنس بدفء حديثه وعذوبة قوله، تاريخها يحفل بأمثاله، وطالما اهتزّت طرباً حين كان ينشد الصّبح بصوته. هي الحوزة، وهو السيد، عنصران لا يفترقان، وإن طال الزمن... وكيف تنسى الأمّ وليدها؟!
*الحكاية الأولى
هي حكايةٌ كان السيد الهاشمي يرسم حروفها مع كلّ أذان، ويخطّ من عينيه بصَرَ الحياة لِيعبُر إلى ساحة الخلود سيداً ومعلّماً وشهيداً.
قالت له الحوزة في رسالة وَجْد:
أيها السيد الحبيب والابن البارّ!
اشتقت إليك وإلى حديثك
تعال ورصّع جبيني بعلمك الوافر
وحدّثني عما في جعبتك
أما اشتقتَ إلى كتبك؟ أما حنّ القلب إلى طلّابك؟ هذه جدراني لا زالت تذكرك.
فخاطبها السيد: نعم إنّ شوقي لا يدانيه شوق، فالكتب تحمل من أنوار جدّي النبي صلى الله عليه وآله وسلم. والطلاب ثمرَةُ عمري؛ أشتاق إليهم، وأحنّ إلى تقبيل جباههم، وأذكر حديثهم في مسائل الدين التي طالما أطربتني بنغماتها.
عندها اهتزّت الحوزة طرباً فخاطَبَتْهُ:
- وهل لا زلت تذكرني، وتذكر أيامي، وكيف ترعرعت لديّ صغيراً تمضي الأيام في دفئي؟
فأجابها: كيف أنسى المعدن الذي منه أخذت، وعند كل حجر توجد حكاية، أو مسألة باحثتها، أو درس أنست بإلقائه؟
- إذاً، أيها السيد إنّ لي عليك حقاً!
وهنا وقف السيد ليخاطب الحوزة بكلام طويل امتدّ إلى سنين خلت، فقال:
- آهٍ كم أشتاقُ إلى بسمة طالب أو نصيحة أستاذ أو مباحثة صديق... كنت هناك معكِ في جوار العصمة؛ أنهل وأنهل، والشمس تشرق كل يوم وتواعدني بدفئها، متى يبزغ فجر العلم والشهادة من نورك يا حسين؟!
فأجيبها، إنّ الصبح قريب وحكايتي لم تنتهِ بعد...
وهنا دمعت عينا الحوزة قائلة:
- آهٍ لعمرٍ يرسم على جبينه صورة السيد الذي رحل. كيف يجرؤ أن يخفي بريق نوره؟
*والحكاية الثانية
ومن هنا تبدأ الحكاية الثانية، والمتحادثان الحوزة والسيد،
قالت له: أيها السيد! هل لك من يؤنسك في رحلتك؟
قال لها: إنّ لي رحلتين، رحلة الجهاد ورحلة الشهادة.
أما رحلة الجهاد فكانت طويلة مملوءة بجواهر الحياة وعشق الإله.. كان لي إخوة لا يفارقوني، أنهل من عشقهم وتفانيهم، ويزدادون كل يوم قرباً مني حتى أصبحنا جسداً واحداً، نرسم نصراً وجهاداً وشهادة.
كنا نحنّ إلى كربلاء، فتمنّينا أن نرحل إليها كما رحل أصحابها شهداء مقطّعين بحب اللقاء مع الإله الحبيب..
أيتها الحوزة، كنت في دفئك صغيراً وصرت في دفء الجهاد والمجاهدين كبيراً.. وبين الدفأين مسافة عمر قضيتها وأنا أنشد الحسين.. وهو جدّي.. وسيدي ومقتداي..
أشتاق إليه، أحنّ للقائه لأمسح عن وجهه الدم والتراب وأحتضنه بين يدي، وهذا شوقي الأبدي تحت عين الله...
خاطبته الحوزة مسرعة:
- أيها السيد وما هي رحلة الشهادة؟
فأجابها: إن رحلة الشهادة رسمها لي الله في أشرف مكان ومع أشرف الناس. كنت أجدّ السير في هذه الرحلة شغفاً، مشتاقاً فقد طال الزمن.
وفي أثناء مسير الشهادة شملتني عناية الإله، لأرحل مع عائلتي التي لم تفارقني، وبين يديّ طفلٌ أقدّمه بين يدي الحسين شهيداً حين اللقاء وقد ضمّخ بدمه منادياً: يا جدّاه عبرنا إليك بلون الدم... لنواسيك ويكون اللقاء واحداً، والثوب أحمر من دمنا.
وهنا تنهّدت الحوزة بجدرانها وصاحت بصرخة الأم الثكلى: آهٍ لفقدك أيها السيد الهاشمي! وأشرفت على طلابها صارخة أقفلوا الكتب، وتعالوا لنقرأ في كتاب السيد حكاية الزمن، ونتعلّم منه حبّ الفداء والتضحية، فقد غادرَنا تاركاً مكتبة العشق والوله.. ففي كتابه شرائع وفي هوامشه الحياة والحديث معه كفاية..