بحث علمي
تشريع القبلة في الإسلام، واعتبار الاستقبال في الصلاة وهي عبادة بين المسلمين وكذا في الذبائح، وغير ذلك مما يبتلى به عموم الناس أَحوَج الناس إلى البحث عن جهة القبلة وتعيينها. وقد كان ذلك منهم في أول الأمر بالظن والحسبان ونوع من التخمين، ثم استنهضت الحاجة العمومية الرياضيين من علمائهم أن يقربوه من التحقيق، فاستفادوا من الجداول الموضوع في الزيجات لبيان عرض البلاد وطولها، واستخرجوا انحراف مكة عن نقطة الجنوب في البلد، أي انحراف الخط الموصول بين البلد ومكة عن الخط الموصول بين البلد ونقطة الجنوب (خط نصف النهار) بحساب الجيوب والمثلثات، ثم عينوا ذلك في كل بلدة من بلاد الإسلام. بالدائرة الهندية المعروفة المعينة لخط نصف النهار، ثم درجات الانحراف وخط القبلة.
ثم استعملوا لتسريع العمل وسهولته الآلة المغناطيسية المعروفة بالحك، فإنها بعقربتها تعين جهة الشمال والجنوب، فتنوب عن الدائرة الهندية في تعيين نقطة الجنوب، وبالعلم بدرجة انحراف البلد يمكن للمستعمل أن يشخّص جهة القبلة.
لكن هذا السعي منهم شكر الله تعالى سعيهم لم يخل من القنص والاشتباه من الجهتين جميعاً. أما من جهة الأولى: فإن المتأخرين من الرياضيين عثروا على أن المتقدمين اشتبه عليهم الأمر في تشخيص الطول، واختل بذلك حساب الانحراف، بتشخيص جهة الكعبة، وذلك أن طريقهم إلى تشخيص عرض البلاد وهو ضبط ارتفاع القطب الشمالي كان أقرب إلى التحقيق، بخلاف الطريق إلى تشخيص الطول، وهو ضبط المسافة بين النقطتين المشتركتين في حادثة سماوية مشتركة كالخسوف بمقدار سير الشمس حساً عندهم، وهو التقدير بالساعة، فقد كان هذا بالوسائل القديمة عسيراً وعلى غير دقة، لكن توفر الوسائل وقرب الروابط اليوم سهل الأمر كل التسهيل، فلم تزل الحاجة قائمة على ساق، حتى قام الشيخ الفاضل البارع الشهير بالسردار الكابلي رحمة الله عليه في هذه الأواخر بهذا الشأن، فاستخرج الانحراف القبلي بالأصول الحديثة، وعمل فيه رسالته المعروفة بـ"تحفة الأجلَّة في معرفة القبلة" وهي رسالة ظريفة بيَّن فيها طريق عمل استخراج القبلة بالبيان الرياضي، ووضع فيها جداول لتعيين قبلة البلاد.
ومن ألطف ما وفق له في سعيه شكر الله سعيه ما أظهر به كرامة باهرة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في محرابه المحفوظ في مسجد النبي بالمدينة 25 درجة 75 درجة 20.
وذلك: أن المدينة على ما حاسبه القدماء كانت ذات عرض 25 درجة وطول 75 درجة 20 دقيقة، وكانت لا توافقه قبلة محراب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مسجده، ولذلك كان العلماء لا يزالون باحثين في أمر قبلة المحراب، وربما ذكروا في انحرافه وجوهاً لا تصدقها حقيقة الأمر، لكنه رحمه الله أوضح أن المدينة على عرض 24 درجة، 57 دقيقة، وطول 39 درجة، 59 دقيقة، وانحراف: درجة 45 دقيقة تقريباً وانطبق على ذلك قبلة المحراب أحسن الانطباق وبدت بذلك كرامة باهرة للنبي في قبلته التي وجه وجهه إليها وهو في الصلاة، وذكر أن جبرائيل أخذ بيده وحول وجهه إلى الكعبة، صدق الله ورسوله.
ثم استخرج بعده المهندس الفاضل الزعيم عبد الرزاق البغائري رحمة الله عليه قبلة أكثر بقاع الأرض ونشر فيها رسالة في معرفة القبلة، وهي جداول يذكر فيها ألف وخمسمائة بقعة من بقاع الأرض، وبذلك تمّت النعمة في تشخيص القبلة.
وأما الجهة الثانية: وهي الجهة المغناطيسية، فإنهم وجدوا أن القطبين المغناطيسيين في الكرة الأرضية غير منطبقين على القطبين الجغرافيين منها، فإن القطب المغناطيسي الشمالي مثلاً ظهر على أنه متغير بمرور الزمان بينه وبين القطب الجغرافي الشمالي ما يقرب من ألف ميل، وعلى هذا فالحك لا يشخص القطب الجنوب الجغرافي بعينه، بل ربما بلغ التفاوت إلى ما لا يتسامح فيه. وقد أنهض هذا المهندس الرياضي الفاضل الزعيم حسين علي رزم آرا في هذه الأيام وهي سنة 1332 هجرية شمسية على حل هذه المعضلة، واستخرج مقدار التفاوت بين القطبين الجغرافي والمغناطيسي بحسب النقاط المختلفة، وتشخيص لانحراف القبلة من القطب المغناطيسي فيما يقرب من ألف بقعة من بقاع الأرض، واخترع حكّاً يتضمّن التقريب القريب من التحقيق في تشخيص القبلة، وها هو اليوم دائر معمول شكر الله سعيه.