قراءة في كتاب
السيّد د. علي محمد جواد فضل الله
تناول الشهيد السيّد الصدر قدس سره موضوع فلسفة التاريخ من خلال عمليّة استنطاقيّة للقرآن الكريم كي يقف على النظريّة الإسلاميّة الأصيلة في ما يتعلّق بالتاريخ وحركته وسننه، فتساءل: هل للتاريخ البشريّ سنن وقوانين قرآنية تتحكّم في مسيرته وحركته وتطوّره؟ وما هي تلك السنن؟ وما هي العوامل الأساسيّة في نظريّة التاريخ؟ وما هو دور الإنسان فيها؟ وإذا كانت الظواهر التي تزخر بها مختلف المساحات، من فلكيّة وفيزيائيّة ونباتيّة وغيرها، ترتكز على سنن وقوانين وضوابط تحكمها أو تتحكّم بها، فهل لهذه الظواهر على الساحة التاريخيّة قوانين وسنن تحكمها أو تتحكّم بها كما هو الحال في مختلف الساحات الأخرى(1)؟
* الكون عامر بالسنن الإلهيّة
يرى الشهيد السيّد الصدر قدس سره حقيقة أنّ الساحة الكونيّة عامرة بقوانين وسنن كما هو الحال في الساحات الكونيّة الأخرى:
1. أجل محتوم: بيّن القرآن الكريم هذه الحقيقة بأشكال وأساليب متعدّدة ومختلفة؛ فنجد أنّ ثمّة عدداً كبيراً من الآيات الكريمة استعرض هذه الفكرة بشكلٍ أو بآخر، كما في قوله تعالى: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ﴾ (الأعراف: 34)، وكذلك قوله تعالى:﴿وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ* مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ﴾ (الحجر: 4-5) إلى غير ذلك من الآيات التي تؤكّد أنّ للأمّة والمجتمع أجلاً مكتوباً ومحتوماً؛ فكما أنّ موت الفرد يخضع لأجَل وقانون، فكذلك الأمم والمجتمعات لها آجالها المضبوطة ضمن قوانين وسنن حاكمة.
2. العذاب الدنيويّ يشمل الجميع: ومن هذه السنن القرآنيّة، أنّ العذاب الدنيويّ عندما يقع، فإنّه لا يختصّ بالظالمين فقط بل يشمل الصالحين كذلك، يقول تعالى: ﴿وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ (الأنفال: 25).
3. شروط النصر: ومن نماذج السنن القرآنيّة قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ﴾ (الأنعام: 34). تشير هذه الآية إلى سنّة إلهيّة لا تتبدّل عبر التاريخ، وهي العلاقة القائمة بين النصر ومجموعة من الشروط والقضايا كالصبر والثبات وغيرهما، على أنّها كلمات الله التي لا تبديل لها ولا تغيير(2). يقول تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا* اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا﴾ (فاطر: 42-43).
4. التغيير الاجتماعيّ: من السنن المهمّة التي يستعرضها الشهيد السيّد الصدر قدس سره هي تلك التي تربط بين التغيير الاجتماعيّ وتغيير المحتوى النفسيّ والفكريّ للإنسان، حيث يتبع تغيّر البناء الفوقيّ (المجتمع) لتغيّر القاعدة (المحتوى النفسيّ)(3)، يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الرعد: 11).
5. المترفون أوّل المعاندين: قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ* وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾ (سبأ: 34-35). ومن السنن أيضاً، علاقة النبوّة على مرّ التاريخ بالمترفين والمسرفين في الأمم والمجتمعات. فهذه العلاقة السلبيّة بينهما ليست وليدة صدفة، بل هي في حقيقتها تعاكس وتناقض بين موقع النبوة المصلح وموقع المترف المفسد، فلا يلتقيان على مرّ التاريخ(4).
6. هلاك المجتمع: ومن السنن التي يؤكّدها القرآن الكريم تلك العلاقة المطّردة بين الظلم الذي يسيطر على المجتمع والتسبّب بهلاكه(5)، يقول تعالى: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا* وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيرًا﴾ (الإسراء: 16-17).
7. الاستقامة ووفرة الخيرات: ثمّة علاقة طرديّة وسنّة تاريخيّة بين الاستقامة وتطبيق أحكام الله سبحانه من جهة، ووفرة الإنتاج والخيرات من جهة أخرى(6)، يقول تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم﴾ (المائدة: 66)، وفي آية أخرى، يقول تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ (الأعراف: 96).
* التدبّر للخروج بسنن كونيّة
يؤكّد القرآن الكريم وجود هذه السنن التاريخيّة في آياته التي حثّت على التدبّر في الحوادث التاريخيّة الماضية، من أجل تكوين نظرة استقرائيّة؛ والخروج بنواميس وسنن كونيّة للساحة التاريخية(7)، يقول تعالى في هذا المجال: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾ (يوسف: 109)، ويقول تعالى أيضاً: ﴿فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ* أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ (الحج: 45-46).
انطلاقاً ممّا تقدّم، يرى الشهيد السيّد الصدر قدس سره أنّ النظريّة القرآنيّة في السنن والنواميس التاريخيّة تُعدّ فتحاً عظيماً للقرآن الكريم. فقد أكّد هذا المفهوم وكشف عنه، وقاوم النظرة العفويّة الاستسلاميّة في تفسير الأحداث التاريخيّة التي تفسّر التاريخ تارةً على أساس الصدفة، وتارةً أخرى على أساس القضاء والقدر والاستسلام لأمر الله سبحانه وتعالى. من هنا، نبّه القرآن الكريم العقل البشريّ إلى هذه الحقيقة، كي يستطيع الإنسان أن يكون فاعلاً ومؤثّراً، بالتالي، متحكّماً في هذه القوانين بدلاً من تحكّمها فيه.
وهكذا، فقد مهّد هذا الفتح القرآنيّ إلى تنبيه الفكر البشريّ إلى هذه الحقيقة، حيث جرت -وبعد ثمانية قرون- محاولات لفهم التاريخ فهماً عميقاً على أيدي المسلمين، وفي طليعتهم ابن خلدون الذي قام بمحاولة دراسة التاريخ وكشف سننه وقوانينه. ومن بعده بأربعة قرون، اتّجه الفكر الأوروبيّ في بدايات عصر النهضة إلى فهم التاريخ وفقاً لسننه وقوانينه أيضاً، حيث نشأت على هذا الأساس اتّجاهات مثاليّة وماديّة ومتوسّطة، ومدارس متعدّدة، قد تكون الماديّة التاريخيّة أشهرها وأكثرها تأثيراً في التاريخ نفسه(8).
(1) السنن التاريخيّة، السيّد الصدر، ص 45-46.
(2) المصدر نفسه، ص 57.
(3) المصدر نفسه، ص 57-58.
(4) المصدر نفسه، ص 59.
(5) المصدر نفسه، ص 60.
(6) المصدر نفسه، ص 60.
(7) المصدر نفسه، ص 52 و61.
(8) المصدر نفسه، ص 62-63.