مقابلة مع فضيلة الشيخ جمال كنعان
حوار: الشيخ موسى منصور
كالجنود المجهولين يعيشون بيننا، إلى أن يشاء الله استدعاءهم إلى المكان الذي يستحقّونه، حيث الراحة الأبديّة، هناك، في جوار الأولياء والصدّيقين والشهداء. إلى الذين لا يعرفون عمّن نتحدّث، نقول لهم: إنّهم قادة المقاومة ومجاهدوها البواسل، الذين أفنَوا أعمارهم وهم يقاومون بصمتٍ بعيداً عن الضجيج والأضواء.
أمّا هو، فقد حان الوقت ليستريح بعد عقود من التضحية والذوبان في خطّ “ذي الأشواك”؛ ومنذ لحظة الارتقاء، بدأ فصل جديد من فصول الحكاية، يسرد بعضاً من أسرار شخصيّته وسلوكه، ولن تعرف الفصول أيّ نهاية.
إنّه الشهيد القائد السيّد فؤاد شكر «السيّد محسن» الذي نتعرّف إلى قليل من مزاياه وسِماته في هذا الحوار الذي أجرته مجلّة بقيّة الله مع أحد أصدقائه، فضيلة الشيخ جمال كنعان، علّنا نستطيع أن نوفيه شيئاً من حقّه.
- كيف بدأت معرفتكم بالشهيد السيّد محسن؟
كانت عشيّة الاجتياح الإسرائيليّ للبنان في الأوّل من حزيران عام 1982م. كنت ومجموعة من الإخوان، في منطقة بئر العبد، نقوم ببعض الأعمال والمهام. في ذلك الوقت، لم يكن حزب الله قد نشأ بعد، بل كانت بعض الأحزاب حاضرة في الساحة كحركة أمل، إضافةً إلى الإخوة المتديّنين الذين كانوا يبادرون إلى التصدّي في مناطق مثل بئر العبد، وحارة حريك، والأوزاعي، امتداداً إلى حيّ السلّم. وكان السيّد محسن حاضراً في الأوزاعي حيث سكن وترعرع. كان آنذاك في بداية شبابه، وكان كما مجموعته من شباب الأوزاعي مجذوباً للصحوة الدينيّة. حين قصف العدوّ الإسرائيليّ المدينة الرياضيّة، كان ذلك إيذاناً ببدء الاجتياح في اليوم التالي. لم تكن الضاحية آنذاك مكتظّة بالأبنية كالآن، وإنّما كانت عبارة عن بساتين ليمون. كان مسجد الإمام الرضا عليه السلام مشيّداً وفي جواره أبنية قليلة. وقد اتّخذنا من إحداها مكاناً لنا لنحتمي فيه أثناء القصف. حضر السيّد محسن إلينا لتفقّد أحوالنا. فبحكم الوظيفة التي كان يشغلها في الأمن العام، استطاع تقديم المساعدة؛ وكان اللقاء الأوّل. كنّا حينها في أعمار متقاربة، إذ كنت أبلغ 18 سنة، فيما كان عمره 20 أو 21 سنة.
في اليوم التالي، توجّهنا كمجموعات إلى خلدة حيث بدأ الاجتياح وصلت مجموعتي إلى المثلّث، فيما وصلت المجموعة الثانية، التي كان على رأسها السيّد مصطفى بدر الدين (السيّد ذو الفقار)، إلى ما يُعرف اليوم بمنطقة الجامعة الإسلاميّة في خلدة. وقد رفدنا العديد من الشبّان من منطقة الأوزاعي، وكان من بينهم الشهيد السيّد محسن وغيره من الشهداء. ودارت هناك مواجهات حقيقيّة ضدّ الصهاينة برز فيها نوع جديد من الشبّان المجاهدين المتدينين، سمّاهم السيّد محسن بـ «الخمينيّين». ومنذ ذلك الوقت، ازدادت معرفتي وعلاقتي بالسيّد محسن (رضوان الله تعالى عليه).
_ ما أبرز السمات الشخصيّة والأخلاقيّة عند الشهيد؟
للسيّد محسن (رضوان الله عليه) العديد من السمات:
1. بأس شديد: يتميّز السيّد محسن بطلّته؛ فهو طويل القامة، وصاحب بنية قويّة ومتينة. بنيته هذه كانت توحي أنّه رجل مغوار، وأسد شديد البأس، وبمجرّد أن تنظر إليه تشعر بالرهبة مباشرة.
2. الجدّيّة في العمل: كان يتابع أيّ عمل يُطلب منه بكلّ جدّيّة ودقّة من بدايته إلى نهايته، ويغوص في أدقّ تفاصيله، حتّى يطمئن أنّ هذا العمل وصل إلى الجودة المطلوبة.
3. الشخصيّة القياديّة: برزت سِمات القيادة في شخصيّة السيّد محسن منذ معركة خلدة؛ إذ كان حينها مقاتلاً ومسؤولاً عن مجموعة من 15 أو 20 شخصاً. وقد أظهر، رغم محدوديّة المسؤوليّات والمهام التي كانت ملقاة على عاتقه حينها، أنّه فعلاً على قدرها جميعها. وقد تدرّج لاحقاً في مسؤوليّات أخرى، فأصبح في فترة ما المسؤول العسكريّ في منطقة الجنوب، وفي مرحلة معيّنة المسؤول المركزيّ للمقاومة، وغيرها الكثير من المهام.
4. الحضور في الميدان: إذا كان لديه عمل يرتبط بالميدان، لم يكن يعتمد فقط على الخرائط والرسوم البيانيّة والمعلومات، بل كان يذهب بنفسه إلى ذاك المكان، ويستطلعه بشكلٍ كامل بكلّ تفاصيله، ويخطّط لما يريد القيام به بطريقة عمليّة واضحة.
5. العابد: من الجوانب الأخرى التي تميّز فيها السيّد محسن هي الشأن العباديّ؛ أذكر هنا موقفاً رأيته بعينيّ. ذات مرّة، بعدما أديّتُ صلاة الجماعة، التفتُّ إليه فوجدته منشغلاً بالتعقيبات وبعض الأدعية والأذكار، وظلّ على هذا الحال لنحو ساعة من الزمن. وهذا إن دلّ على شيء، فإنّما يدلّ على حقيقة روح هذا الشخص المتّصلة بالملكوت الأعلى. وكان معروفاً أيضاً، أنّه (رضوان الله عليه) لا يفوّت مسيرة العاشر من شهر المحرّم، وكان أحياناً يمشي حافي القدمين في المسيرات التي كانت تُقام في أوقات وأماكن مختلفة.
6. صراحة ووضوح: من الأمور التي كانت تميّز شهيدنا، هي صراحته ووضوحه. فإذا كان لديه مأخذ على أحد، فإنّه لا يتردّد في مخاطبته بشكلٍ مباشر، وبأسلوب واعٍ ودقيق وصريح.
7. الولاء للقيادة: كان شخصيّة محبوبة عند الشهيد السيّد عبّاس الموسويّ (رضوان الله عليه)، وسماحة الأمين العام السيّد حسن (حفظه الله). لقد أحبّه هذان السيّدان ووثقا به لدرجة كبيرة، وهو ما يدلّ على مكانة هذا الشهيد بالنسبة إليهما. وهو بدوره، انصاع إلى هذه القيادة والولاية بلا تردّد، ووضع نفسه وروحه في تصرّفها إلى أبعد الحدود، حتّى لو أدّى هذا الأمر إلى أن يُقتل ويُنشر في الهواء عشرات المرّات.
8. بصيرة ثاقبة: لقد كان الشهيد محسن بحقّ قائداً ثاقب البصيرة والرؤية، وقد رسم معالم الطريق الذي سيسلكه حتّى باتت واضحة أمامه، تمثّل بقول أمير المؤمنين عليه السلام: “ارم ببصرك أقصى القوم”(1).
- هل من كلمة أخيرة بحقّ الشهيد السيّد محسن (رضوان الله عليه) تختمون فيها لقاءنا هذا؟
لقد كان الشهيد (رضوان الله عليه) شخصيّة فريدة من نوعها، فبمجرّد أن تجلس معه لبعض الوقت، تغادر وأنت مشبع بالكثير من المعلومات والأفكار. كان يزرع فينا حبّ مقارعة الاستكبار العالميّ، ويغرس في نفوسنا حالة من الاطمئنان العجيب. صحيح أنّه رحل إلى عالم أجمل حيث يستحقّ أن يكون إلى جوار أمثاله من الشهداء، ولكنّ ذكراه لن تغادر ذاكرتي. هنيئاً لنا به مجاهداً قائداً، وهنئياً له نيل وسام الشهادة.