نسرين إدريس قازان
الشهيد على طريق القدس بلال عبد الله أيّوب “علي حيدر”
اسم الأمّ: حنان الموسويّ.
محلّ الولادة وتاريخها: النبيّ شيث 25/5/1998م.
الوضع العائليّ: خاطب.
محلّ الاستشهاد وتاريخه: راميا 28/10/2023م.
هدوء يترقّبُ العاصفة، وإذ بعطرٍ يفوح بين جمعهم، فجعلوا يسألون بعضهم بعضاً، ولكنّ أحداً لم يتعطّر ولم ينثر عطراً! وكأنّ على رؤوسهم الطير، فتسمّرت نظراتهم للحظات، وقد عرفوا أنّ منهم من سيغادر هذه الدنيا قريباً، فاستعدّوا لنداء الشهادة.
* خطّ أحمر
“بلال خطّ أحمر”، هكذا كانت تقول دائماً، فقد رزقها الله به بعد فتاتين، وحينما أبلغت الممّرضة والده بأنّ الله رزقه صبيّاً، قال بهدوء ضابطاً فرحته العارمة: “الحمد لله، لقد زاد عدد المجاهدين في الجنوب واحداً”. كان أبوه قد اتّفق مع زوجته على عدم إجراء صورة صوتيّة لمعرفة جنس الجنين، وترك الأمر مفاجأة. أمّا هي، فلمّا رأت وجهه الجميل لأوّل مرّة، فرحت به وكأنّها لم تعرف الفرحة سابقاً.
عندما ولد بلال في الخامس والعشرين من شهر أيّار، لم يكن لهذا التاريخ أيّ رمزيّة سوى أنّه عيد ميلاد مدلّل العائلة، ولكن بعد تحرير عام 2000م، وُسمت تلك الرمزيّة به.
في بلدة النبيّ شيث البقاعيّة، وبالقرب من مقام الشهيد السيّد عبّاس الموسويّ (رضوان الله عليه)، ترعرع بلال وكبر، حيث سكنها وأهله شتاءً، أمّا صيفاً ففي مسقط رأس العائلة حجولا، وبين هذين المكانين تنفّس بلال هواءه وتجلّى هواه.
* طاقة لا تخمد
لطالما كان بلال يلفت نظر من حوله بلعبه، فهو محبٌّ للاختراعات والاكتشافات بشكلٍ لافت، وساندته جرأته وإقدامه على خوض الكثير من التجارب، وأكثر ما شغفه في اللعب هو توصيل أشرطة الكهرباء وإصلاحها، ومحاولة اختراع ما يمكن أن يشحن البطاريّة بطريقة بسيطة، فلا يكلّ ولا يتعبُ حتّى يُنهي ما بدأه، فإذا أنهاهُ أوجد لنفسه مهمّة جديدة، وكأنّه مشحون بطاقة لا تخمد. ومع هذه الجرأة، كان رقيق القلب، وتذكر أمّه أنّه في عمر الثامنة تقريباً، اشترى عدداً من الصيصان الصغيرة ليعتني بها، فوضعها في قفص كبير في الحديقة، وجلس يصنع لها سوراً من خشب ليدرأ عنها خطر الهررة. هذا الاهتمام بتفاصيل صغيرة، جعل منه إنساناً محبّاً ومتعاطفاً مع من حوله، وخدوماً بلا كلل.
* دربٌ جديد
يتبسّم والده وهو يستذكرُ كفّ طفله الصغير الموضوعة على صدره وهو ابن ثلاث سنوات، تلوحُ مع الذكريات الجميلة، وصوته الرقيق يقول إنّه لا يصافح النساء بسبب التزامه! قرارٌ فاجأ فيه الجميع، فكان هذا الموقف بداية تربية النفس على التعوّد على الأحكام الشرعيّة. وبتلك اليد الصغيرة أيضاً اختار البندقيّة رفيقاً له، فكان يدّخر مصروفه كي يشتري البنادق ليلعب بها مع أترابه لعبة «المقاوم» الذي طالما أحبّ أن يكونه.
كان بلال رفيق والده الذي عزّز في داخله ثقته بنفسه، فعلّمه الصلاة وحبّبه بالجهاد. وسمحت شخصيّته المتعاونة والمنضبطة بمنحه هامشاً من الحريّة، فاستغلّ ذلك في كلّ ما هو مفيد له؛ فإلى جانب دراسته، انتسب إلى الكشّافة حتّى صار قائداً، وحرص على حضور الدروس الدينيّة والالتحاق بالدورات الثقافيّة. ولكنّ نشوب حرب الدفاع عن المقدّسات في سوريا، أخذت منه كلّ اهتمام، وبدا واضحاً أنّه أخذ يرسمُ طريقاً جديدة له.
* سنوات صعبة
التحق بلال بالدورات العسكريّة، ومن ثمّ توجّه مباشرة إلى الجبهة في سوريا. أمّا أمّه، فكالعادة تعدّ الأيّام، من الثلاثاء حتّى الثلاثاء، سبعةُ أيّام بالضبط. هكذا مرّت السنوات الأربعة الأخيرة، وهي من أقسى الأيّام التي مرّت على قلبها بعد ستّ سنوات من القتال في سوريا، وهو يتنقّل من محورٍ صعبٍ إلى آخر أصعب، وقد عاد ثلاث مرّات مُصاباً، ولا ينتظر تماثله للشفاء حتّى يعود مجدّداً إلى الجبهة.
حتّى أنّ أحد رفاقه اشتكى عليه لوالديه ذات يوم، بسبب إصرار «أيوب» -كما ناداه رفاقه- على البقاء دوماً في المقدّمة، وجرأته الزائدة في بعض المواقف الصعبة والحسّاسة. وطوال تلك السنوات كانت أمّه تدعو له بالحفظ والسلامة، وكلّما توجّه إلى عمله تشعر وكأنّها تقتلع قلبها وتضعه في جعبته، فيمشي وهي تمسح كتفيه من الخلف وتدعو الله أن يحيطه بعناية السيّدة فاطمة عليها السلام.
كان بلال يعتزّ كثيراً بأنّ معسكر جنتا يقع في قريته، وكم فرح لمّا وهب والده قطعة أرض للكشّافة لإقامة النشاطات فيها. وعندما وُضع حجر الأساس لمعلم جنتا، كان حاضراً هناك للمساعدة، إذ كان يشعر بأنّ الأمر يعنيه شخصيّاً، فتاريخ هذا المعسكر وحاضره ينعكس في داخله ظلّاً من أبيه ورفاقه. وبين تلك الأشجار الوارفة كان يحمل بندقية الصيد ليصطاد العصافير، ويأنسُ بصوت الأشجار ترافقُ دندنات شفتيه بالدعاء، وكم كان يأنس بالصلاة على التراب هناك وأمامه تلوح خيالات رجال مضوا إلى ما عاهدوا الله عليه.
”سلّمتك للإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف”
خضع بلال لدورة مسعف حربيّ، وانتقل عمله من سوريا إلى الجنوب، وكلّما رجع من الجبهة، امتلأ البيت حياةً وفرحاً باجتماع الأولاد والأحفاد، وكان يحبُّ كثيراً أن يلاعب أولاد أختيه. أمّا وقته الخاصّ فيقضيه في مكانه المخصّص في مقام السيّد عبّاس (رضوان الله عليه). وكم له من الذكريات هناك، وكم ناجى الله وحيداً بين تلك الزوايا المفعمة بالروحانيّة الخالصة، حيث كان يتحدّث مع من سبقه من رفاقه الشهداء ويبثّ إليهم شوقه للالتحاق بهم.
قبل نشوب معركة طوفان الأقصى، عقد بلال قرانه، وكان قد أنهى بناء منزله، وقرّر الالتحاق بالمهنيّة لدراسة التمريض، فوضع خطّة تتناسبُ مع عمله وحياته الجديدة، إلّا أنّ انطلاق جبهة الإسناد غيّر كلّ شيء، وألهب نار الخوف من جديد في قلب أمّه التي ودّعته كعادتها، ولكنّها للمرّة الأولى تقول: “سلّمتك للإمام المهديّ”، فاختصر عليها بلال انتظار يوم الثلاثاء، وعاد إليها قبل نهاية مأموريّته شهيداً مخضّباً بدمه، ورنّ هاتف والده يوم الثلاثاء لإبلاغه بضرورة تسلّم أثاث المنزل الذي كان بلال ينتظره، ولكنّه اختار أن يكون عرسه في العالم الآخر.