الشيخ إبراهيم بدوي
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به من بعده، أو ولد صالح يدعو له"(1).
*ما ينفع الموتى
بما أن الموت نوع من الكمال للبشر، فإن الإنسان لا ينفصل بموته عن الدنيا بشكل كامل، بل يبقى له ارتباط ما بالحياة وبالأحياء، بحيث يستفيد من أعمالهم الصالحة الموجهة إليه، كما قد يتضرر من أعمالهم السيئة التي تسبب هو بها في حياته.
وهذا الارتباط يبعث الأمل في النفوس، ويترك فينا أثراً تربوياً يدعونا لمراجعة أعمالنا في حياتنا الدنيا كي لا يستمرّ وزر عملنا السيئ يثقل كواهلنا من جهة، وكي نضاعف أعمالنا الحسنة من جهة أخرى لتستمر برفدنا بالحسنات حتى بعد رحيلنا. وفي الوقت عينه يفتح لنا آفاقاً للتمكّن من صلة من فاتنا أن نصله في حياته وتعويض ذلك بأعمال صالحة نهديها له حتى بعد وفاته.
*هل يستفيد الميت من عمل الأحياء بعد موته؟
نعم، بكل تأكيد، وقد سئل الإمام الكاظم عليه السلام عن الرجل يتصدّق عن الميت أو يصوم ويصلّي ويعتق عنه، فقال عليه السلام : "كلّ ذلك حسن يدخل منفعته على الميت"(2).
*دفع الضرر أولى..
عملاً بالقاعدة الشرعيّة القائلة: إنّ دفع الضرر أولى من جلب المنفعة،فإن أفضل ما يمكن تقديمه لموتانا هو قضاء ديونهم وقضاء ما فاتهم من واجبات. ومن هذا الباب أوجب الشرع الحنيف على الورثة أن يخرجوا الديون من الميراث ويؤدوا حقوق الآخرين من مال الميت قبل التصرف به، كما أوجب أن يؤدوا حقوق الله من صلوات وصيام وحج وكفّارت ونذور. ومن ذلك أنه على الابن الأكبر قضاء ما فات والديه من صلوات.
سأل أحدهم الإمام الصادق عليه السلام : "يُصلَّى عن الميت؟ قال: نعم. حتّى إنّه يكون في ضيق فيوسّع عليه ذلك الضيق، ثمّ يؤتى، فيقال له خُفِّف عنك هذا الضيق بصلاة فلان أخيك"(3).
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها؟ قال: لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها؟ قال: نعم. قال: فدين الله أحق أن يُقضى"(4).
*الظلم الذي لا يغفر
ومن المعلوم أن الله تعالى لا يغفر ظلم الناس بعضهم بعضاً. فما بدر من الميت من ظلم لأحد يمكن للحيّ أن يتداركه ويرفعه عنه بردّ المظالم إلى أهلها.
ورد في الكافي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: "قال الله تعالى: وعزّتي وجلالي لا يجوزني ظلمُ ظالم ولو كفٌّ بكفّ"(5).
وفي نهج البلاغة: "أمّا الظلم الّذي لا يُترك فظلم العباد بعضهم بعضاً"(6).
ويأتي بعد ذلك في الأهمية دور الاستغفار للميت لمحو آثار الذنوب التي علقت به والدعاء له بالرحمة والمغفرة.
قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ (الحشر: 10).
وعن الإمام الصادق عليه السلام : "إن الميت ليفرح بالترحُّم عليه والاستغفار، كما يفرح الحي بالهدية تُهدى إليه"(7).
وفي (كتاب درست ابن أبي منصور) عن إسحاق بن عمار أنَّه قال: "قلت لأبي الحسن عليه السلام : الدعاء ينفع الميت؟ قال: نعم، حتى إنه ليكون في ضيق فيوسع عليه ويكون مسخوطاً عليه فيُرضى (عنه). قال: قلت: فيعلم من دعا له؟ قال: نعم. قال قلت: فإن كانا ناصبيَّيْن؟ قال: فقال: ينفعهما والله، ذاك يخفف عنهما"(8).
*صلاة الوحشة
وفي هذا المضمار، من المناسب ذكر صلاة الوحشة، وهي صلاة ليلة الدفن.
ففي الخبر النبويّ: "لا يأتي على الميّت ساعة أشدّ من أوّل ليلة، فارحموا موتاكم بالصدقة، فإن لم تجدوا فليصلِّ أحدكم ركعتين".
وصلاة الوحشة هي ركعتان: يقرأ في الأولى بعد الحمد آية الكرسي إلى ﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾، وفي الثانية بعد الحمد سورة القدر عشر مرات، وبعد السلام يقول:
اللهم صل على محمد وآل محمد وابعث ثوابها إلى قبر فلان بن فلان. ويسمّي الميت.
وفي رواية بعد الحمد في الأولى التوحيد مرتين، وبعد الحمد في الثانية سورة التكاثر عشراً، ثم الدعاء المذكور.والجمع بين الكيفيتين أولى وأفضل.
*سائر الأعمال المستحبة
ثم بعد ذلك يأتي دور الأعمال المستحبة التي توسع على الميت وترفع من مقامه عند الله من جميع وجوه البر من صلاة وصيام وحج وزيارة وصدقة ودعاء واستغفار وقراءة قرآن.
وأفضل الأعمال المستحبة وأكثرها أجراً الصدقة الجارية، وذلك كطباعة كتاب ينتفع به الناس في دينهم، أو تشييد مسجد أو حسينية أو سبيل ماء مما يعود نفعه إلى عموم المسلمين دون انقطاع.
فقدروي عن الإمام الصادق عليه السلام : "ليس يتبع المرء بعد موته من الأجر إلا ثلاث خصال: صدقة أجراها في حياته فهي تجري بعد موته، وسنَّة هدى سنَّها، فهي يُعمل بها بعد موته أو ولد صالح يدعو له"(9).
*زيارة القبور
ونختم البحث بالحديث عن زيارة القبور، وهي من الأمور المستحبة لما فيها من اتعاظ للأحياء وصلة للموتى. وليس للزيارة وقت خاصّ، ولكن عن بعض الفقهاء أنّه يتأكّد الاستحباب يومَي الاثنين والخميس خاصّة عصر الخميس. وفي بعض الروايات عن أئمة الهدى عليهم السلام استحبابها يوم السبت. كما ورد عنهم كراهة زيارة القبور في الليل.
عن محمّد بن مسلم قال: قلت لأبي عبد الله الصادق عليه السلام : "نزور الموتى؟فقال عليه السلام : نعم. قلت: فيسمعون بنا إذا أتيناهم؟ قال عليه السلام : إي والله ليعلمون بكم ويفرحون بكم ويستأنسون إليكم"(10).
*آداب زيارة القبور
1 - التسليم عليهم: ففي رواية تقول: "السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، رحم الله المستقدِمين منّا والمستأخرين، وإن شاء الله بكم لاحقون"(11). والسلام المعروف عن الإمام عليّ عليه السلام : "بسم الله الرحمن الرحيم، السلام على أهل لا إله إلا الله، من أهل لا إله إلا الله، يا أهل لا إله إلا الله، بحقّ لا إله إلا الله، كيف وجدتم قول لا إله إلا الله؟ من لا إله إلا الله، يا لا إله إلا الله، بحقّ لا إله إلا الله، اغفر لمن قال: لا إله إلا الله، واحشرنا في زمرة من قال : لا إله إلا الله، محمّد رسول الله ، عليّ وليّ الله"(12).
2 – الدعاء لهم: فعن الإمام الصادق عليه السلام : تقول: "اللهمّ جافِ الأرضَ عن جنوبهم وصاعد إليك أرواحهم ولقِّهم منك رضواناً وأَسكِن إليهم من رحمتك ما تصل به وحدتهم، وتؤنس به وحشتهم إنّك على كلّ شيء قدير"(13).
3 – الدعاء لنفسك وللمؤمنين: فعن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: "زوروا موتاكم فإنّهم يفرحون بزيارتكم وليطلب أحدكم حاجته عند قبر أبيه وعند قبر أمّه بعدما يدعو لهما"(14).
نسأل الله تعالى أن يوفقنا لزيارة موتانا والدعاء لهم، وأن نهدي لهم ما أمكننا من الأعمال الصالحة.
1- المعتبر، المحقق الحلي، ج1، ص341.
2- وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج8، ص279.
3- م.ن، ج2، ص444.
4- الخلاف، الشيخ الطوسي، ج2، ص209.
5- الكافي، الكليني، ج2، ص443.
6- نهج البلاغة، الخطبة 176.
7- الوافي، الكاشاني، ج25، ص587.
8- جامع أحاديث الشيعة، البروجردي، ج15، ص503.
9- الكافي، م.س، ج7، ص56.
10- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج99، ص300.
11- الكافي، م.س، ج3، ص229.
12- بحار الأنوار، م.س، ج99، ص301.
13- هداية الأمة إلى أحكام الأئمة، الحر العاملي، ج1، ص323.
14- الكافي، م.س، ج3، ص230.