السيّد عبّاس عليّ الموسويّ
في الحديث: "فإذا خرج -الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف - أشرقت الأرض بنور ربّها ووضع ميزان العدل بين الناس، فلا يظلم أحد أحداً"(1). فظهور الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف يكون السبب والعلَّة لإشراق الأرض بنور الله -كناية عن ظهور الحقّ ووضوحه-، ثمّ يرتفع الظلم والجور ويحلّ محلّهما القسط والعدل.
إنَّ الخطّ العريض لحركة الإمام المهديّ عليه السلام يتجسَّد في إقامة العدل في الأرض، هذا العدل الذي تحقَّق في عصور الأنبياء عليهم السلام بدرجات متفاوتة، ولكنّه في زمنه عجل الله تعالى فرجه الشريف يبلغ الذروة. ولو ألقينا نظرة سريعة إلى ما ورد من روايات تبشّر بالإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف ؛ لوجدنا اقتران العدل بالإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، فعشرات الأحاديث، بل المئات منها، عندما تذكر الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف تذكر مهمّته: "يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد أن مُلئتْ ظلماً وجوراً"(2). فهذه الأنشودة الراقية التي تحنّ إليها القلوب المعذَّبة بنار الظلم، والمكتوبة بجمر القهر تجد في الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف مُنقذاً لها ومخلِّصاً. فما هي ملامح حكومة العدل المهدويّة؟
* سيرة حكمه عجل الله تعالى فرجه الشريف
يسأل رجلٌ الإمام الباقر عليه السلام عن القائم: "إذا قام بأيّ سيرة يسير في الناس؟ فقال: بسيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتّى يظهر الإسلام. قلت -الراوي-: وما كانت سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: أبطل ما كان في الجاهليّة واستقبل الناس بالعدل، وكذلك القائم عجل الله تعالى فرجه الشريف إذا قام يبطل ما كان في الهدنة ممَّا كان في أيدي الناس، ويستقبل بهم العدل"(3).
* أوّل عدل الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف
عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "أوّل ما يُظهر القائم من العدل، أن ينادي مناديه أن يسلّم صاحب النافلة لصاحب الفريضة الحجر الأسود والطواف"(4).
باعتبار أنَّ صاحب الفريضة -الواجب- لم يؤدِّ فريضته بعد؛ فهو مقدّم لاستلام الحجر والطواف على من أدّاهما -وهو يقوم بالمستحبّ- فمَنْ وجب عليه الحجّ أو العمرة له أولويّة، فيجب أن يُقدّم. وهذه اللفتة الكريمة المباركة تُقدّم لنا صورة ناصعة عن مدى متابعة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف لدقائق الأمور وصغير القضايا، بحيث لا يغيب عن ناظريه حتّى الطائف في بيت الله والمؤدّي لعبادة ربّه.
وبما أنّه عجل الله تعالى فرجه الشريف رائد العدالة الإلهيّة ورافع الظلم عن المجتمع، فإنّ من مهمّاته الأولى في هذا المجال أن لا تبقى مَظلمة لأحد عند أحد؛ بل واجبه أن يردع الظالم، فإنَّ تقادم الزمن لا يشرّع الحرام ولا يرفع مالكيّة صاحب الحقّ عن حقّه. ولذا، ورد في الحديث: "يبلغ من ردّ المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف المظالم حتّى لو كان تحت ضرس إنسان شيء انتزعه حتّى يردّه"(5).
* عدل الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف يدخل البيوت
لا يقتصر عدل الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف على الحكم بالحقّ ولا على التسوية في توزيع الثروة، ولا على إتاحة الفرصة لنموّ القابليّات والقدرات؛ بل إنَّ عدله عجل الله تعالى فرجه الشريف يعمّ وينتشر حتّى يدخل البيوت، فتعيش الأُسر في أجواء العدل؛ الزوج والزوجة والأولاد والآباء والأبناء والإخوة والأخوات، ويتحوَّل هذا العدل إلى مناخ عامّ لا يُستثنى أحدٌ منه.
وإنَّ أصدق ما يكشف هذه الصورة ويُبيّن معالمها، ما ورد في الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام، إذ يقول: "أما والله ليدخلنَّ عليهم عدله جوف بيوتهم كما يدخل الحرّ والقرّ"(6).
* يوصي الأمراء بالعدل
إذا تجسَّدت العدالة في الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف عملاً وسلوكاً فضلاً عنها قولاً، فإنَّه عجل الله تعالى فرجه الشريف يعيش هاجس هذا العدل ويبقى ساهراً على تنفيذه، حتّى إذا بعث رسله وأمراءه إلى الولايات، أوصاهم أن يُقيموا هذا العدل ولا يتهاونوا فيه. يقول الإمام عليّ عليه السلام في قصّة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف وفتحه لمدينة القاطع: "فيبعث المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف إلى أمرائه بسائر الأمصار بالعدل بين الناس"(7).
* الأمن في زمن الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف
من خصوصيّات زمن الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف ومن العلامات الفارقة لذلك الزمان، أن يعمّ الأمن ويستتبّ السلام في كلّ أرجاء العالم ونواحي الدنيا. ونحن وكلّ الناس ندرك قيمة الأمن وأهميّته وما يقوم على كلّ الصعد ومختلف الميادين، ونقرأ في دعاء إبراهيم عليه السلام الذي صدع به لربّه قبل آلاف السنين، حينما قال في ندائه لمكّة: ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ﴾ (البقرة: 126).
فإنّ أوّل ما تناوله إبراهيم عليه السلام في دعائه لمكّة أن يجعلها الله آمنة؛ لأنَّ الأمن أهمّ عامل من عوامل الاستقرار والازدهار، فإنّ من لم يأمن على نفسه ووجوده لا يقرّ له قرار ولا يطيب له عيش ولا يهدأ له بال؛ لأنَّه مُهدَّد في أصل وجوده. فإذا اطمأنّ الإنسان إلى حياته وأنّها في أمان، انصرف بعدها إلى قضاياه الأخرى؛ التجاريّة والزراعيّة والصناعيّة وغير ذلك، ويحاول جهده أن يستثمر الطاقات وينمّيها فتزدهر الحياة ويعمّ الرفاه ويعيش الناس في أرقى المجتمعات، حيث يتحقَّق لهم كلّ ما يتطلّعون إليه وما تحبّه أنفسهم ويرغبون فيه، سواءٌ كان ذلك ماديّاً أو معنويّاً، ثقافيّاً أو روحيّاً أو اجتماعيّاً.
أمّا التديّن والالتزام بطاعة الله، فهما قرّة العين ومراد المريدين والمطلب الأسمى الذي ينشده كلّ فرد في ذلك المجتمع. وقد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام وهو في حديثه عن زمن الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، يقول: "حتّى تمشي المرأة بين العراق والشام لا تضع قدميها إلّا على النبات وعلى رأسها زبيلها(8) لا يهيجها سبع ولا تخافه"(9).
انظر كيف ينتشر الأمن زمن الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، فهل هذه أحلام أم حقائق؟ قد تكون اليوم أحلاماً، لفقدان الأمن وخوف الناس الدائم على مصيرهم، ولكنّها الحقيقة في زمن الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، ستحملها الأيّام ويعيشها الناس كما تعيشها الحيوانات الكاسرة والبهائم الوادعة الضعيفة، جنباً إلى جنب لا يهمّها القويّ، ولا تخشى من بطشه واعتدائه.
* مضاعفة الخيرات
ببركات الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف تزداد الخيرات وتتضاعف الغلال والثمرات، حتّى تبلغ سبعمائة ضعف. وفي الحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام وهو يصف الازدهار في ذلك العصر المبارك الكريم، يقول: "فيبعث الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف إلى أمرائه بسائر الأمصار بالعدل بين الناس وترعى الشاة والذئب في مكان واحد، وتلعب الصبيان بالحيّات والعقارب لا يضرّهم شيء ويبقى الخير، ويزرع الإنسان مدّاً يخرج له سبعمائة مدّ، كما قال الله تعالى: ﴿كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء﴾ (البقرة: 261). ويذهب الربا والزنا وشرب الخمر والرياء، وتُقْبل الناس على العبادة والشريعة والديانة والصلاة في الجماعات، وتطول الأعمار، وتؤدَّى الأمانة، وتحمل الأشجار، وتتضاعف البركات، وتهلك الأشرار، ويبقى الأخيار، ولا يبقى من يبغض أهل البيت عليهم السلام"(10).
* الرواتب والعطاء
بعد أن تصبح أموال الدنيا في يد الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، يقوم بإعطاء الناس ما يكتفون به، بحيث ترتفع الحاجة ولا يبقى محروم أو محتاج. ففي الحديث عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: "كأنّني بدينكم هذا لا يزال مولياً يفحص بدمه، ثمّ لا يردّه عليكم إلّا رجل منّا أهل البيت، فيعطيكم في السنة عطاءين ويرزقكم في الشهر رزقين"(11).
يكشف الإمام الباقر عليه السلام أنّ هذا الإسلام سيبقى جريحاً في أحكامه من حيث عدم تنفيذها والقيام بها حتّى يقوم الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، عندها يسترجع الإسلام أحكامه ويصبح نافذ المفعول والإرادة.
كما تدلّ الرواية على أنّ ثمّة رواتب نصف شهريّة يأخذها كلّ شخص، بحيث لا ينفد المال من يديه، ولا يقع في حاجة أو عوز في آخر الشهر، وهذا تدبير يكون في زمانه عجل الله تعالى فرجه الشريف، حيث يرى من المصلحة ذلك. علاوة على ذلك، ثمّة توزيع نصف سنويّ يعطيه للناس، ففي كلّ ستّة أشهر يمدّ الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف الناس بالمال، وعلى كلّ حال فالحديث يريد أن يُبيّن مدى اهتمام الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف بالناس، وأنّهم في زمانه يكتفون بما يعطيهم فلا يتعرّضون لفقر أو حاجة.
* الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف ينادي الناس
في زمن الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، حينما تُجمع إليه أموال الدنيا، سواء كانت في بطن الأرض أو ظهرها، ينادي بالناس: من أراد مالاً فليأتِ وليأخذ ما يريد. يقول الإمام أبو جعفر عليه السلام: "وتُجمع إليه –إلى الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف - أموال الدنيا من بطن الأرض وظهرها، فيقول للناس: تعالوا إلى ما قطعتم فيه الأرحام وسفكتم فيه الدماء الحرام وركبتم فيه ما حرّم الله عزّ وجلّ، فيعطي شيئاً لم يعطه أحد كان قبله"(12).
* ولا يجد الرجل مكاناً لزكاته
في زمن الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف يصل الغنى غايته، بحيث لا يجد الرجل مكاناً لزكاته، فيحمل الزكاة ويدور على من يقبلها منه، فلا يجد. إنّها صورة لا تتأتّى في الحلم والرؤيا، تعيشها أُمَّة القائم في زمانه، فالنفس غنيّة والغنى يعمّ الناس كافّة. تقول الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "ويطلب الرجل منكم من يصله بماله ويأخذ من زكاته. لا يوجد أحد يقبل منه ذلك، استغنى الناس بما رزقهم الله من فضله"(13).
* دولة الخير والبركة
إنَّ خلاصة دعوة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف تتجسَّد في عدالة عامّة شاملة لكلِّ الناس، وفي كلّ الحقول والميادين، بحيث يرتفع الظلم من الأرض ليحلّ محلّه العدل، وينتج عن ذلك العدل والغنى والأمن والاستقرار والوفرة والعيش في خير وبركة، كلّه تحت لوائه سلام الله عليه.
(*) مقتبس من كتاب: الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف عدالة السماء.
(1) العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج52، ص322.
(2) المصدر نفسه، ج 52، ص 85.
(3) المصدر نفسه، ج 52، ص 374.
(4) المصدر نفسه، ج 52، ص 380.
(5) الصافي، منتخب الأثر، ج 2، ص322.
(6) النعماني، الغيبة، ص 207. والقرّ البرد.
(7) الصافي، مصدر سابق، ج 2، ص 144.
(8) سلّة من ورق النخيل.
(9) العلّامة المجلسي، مصدر سابق، ج 52، ص 316.
(10) الصافي، مصدر سابق، ج 3، ص 145.
(11) العلّامة المجلسي، مصدر سابق، ج 52، ص 352.
(12) المصدر نفسه، ج 52، ص 351.
(13) المصدر نفسه، ج 52، ص 337.