مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

مناسبة: معركةُ أحد: نصر أهل البصيرة


الشيخ موسى خشّاب


مرّ عام على الهزيمة القاسية التي تعرّض لها المشركون في معركة بدر، والتي قُتل فيها سبعون مشركاً وأُسر سبعون آخرون، وكانوا قد منعوا أهالي القتلى من البكاء على قتلاهم؛ ليبقى غيظ صدورهم مشتعلاً، ثمّ جمعوا كلّ أموالهم؛ لتجهيز جيش مؤلّف من ثلاثة آلاف مقاتل، واتّجهوا إلى المدينة حاملين في صدورهم كلّ أحقادهم، وعازمين على الأخذ بالثأر. وفي الخامس عشر من شوال، وقيل في السابع من شهر شوال وصلت جموعهم إلى مشارف المدينة قرب جبل يُسمى "أُحد".

* تخطيط المشركين
استخلص المشركون الدروس من معركة بدر، ووضعوا مجموعة من الأهداف تلخّصت بثلاثة أمور أساسيّة:

1. منع سقوط الراية: ولهذه الغاية؛ قام مشركو مكة بتسليم الراية إلى بني عبد الدار، الذين كانوا قد تركوا راية المشركين في معركة بدر ولاذوا بالفرار، فلحقهم العار بين أهل مكّة جرّاء ذلك؛ ولكي يمحوا هذا العار عنهم، تعهّدوا أمر الراية في أُحد، وتعاهدوا على عدم السماح بسقوطها مهما كانت الأثمان.

2. منع فرار المقاتلين: اصطحب المشركون النساء معهم إلى أرض المعركة؛ وذلك لتجييش النفوس وليخجل من يريد الفرار. وقد اختاروا بعض النسوة اللواتي لهنّ القدرة على التأثير في النفوس، وكانت من بينهنّ هند زوجة أبي سفيان، وقد جُعلت هي ومن معها من نساء المشركين، قبل أن يلتقي الجمعان، أمام صفوف المشركين يضربن بالطبول والدفوف، ثمّ يرجعن إلى مؤخّر الصفّ، حتّى إذا دنا المشركون من المسلمين بقيت النساء خلف الصفوف، وجُعلن كلّما ولّى رجل حرّضنه، وذكّرنه بقتلى بدر(1).

3. القوة الاحتياطيّة: أحد الإجراءات التي قام بها المشركون، عدم إشراك قسم من جيشهم في القتال، وذلك للتدخّل في اللحظة المناسبة في حال ظهور المسلمين عليهم.

* تخطيط النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم
في المقابل، وضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطّةً محكمةً؛ للانتصار في هذه المعركة تمثّلت بأهداف، منها:

1. إسقاط راية المشركين: أول تلك الأهداف التركيز على إسقاط راية المشركين، وعدم السماح بإعادة رفعها؛ حتّى لا يتمكّن المشركون من التجمّع تحتها وتنظيم صفوفهم.

2. الإثخان بالجراح: بمعنى أن تكون الأولويّة عند المقاتلين هي قتال المشركين وليس أسرهم، قال تعالى: ﴿فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ﴾ (محمد: 4)؛ أي أن يكون الأسر بعد الإثخان بالجراح؛ لكي يحكموا النصر عليهم ويقطعوا عنهم أي مكيدة أو استئناف قتال؛ ولكي لا يتلهّى المسلمون بجمع الأسرى والغنائم عن القتال.

3. توزيع الرماة على الجبل: قام النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بإجراء مهمّ لمنع المشركين من الالتفاف على المسلمين من جهة الخلف؛ وهو تمركز مجموعة من الرماة، وعددهم خمسون، فوق جبل (عينين)(2)، وحذّرهم من ترك مواقعهم مهما حصل، ولو انتصر المسلمون، يجب الثبات في مواقعهم.

* أحداث المعركة
1. الإمام عليّ عليه السلام يُسقط راية المشركين: خرج حامل راية المشركين طلحة بن أبي طلحة من بني عبد الدار، طالباً المبارزة، فبرز إليه الإمام عليّ عليه السلام وضربه فسقط على الأرض، فأخذ الراية أخوه فقتله الإمام عليّ عليه السلام أيضاً، ثمّ أخذها أخوه الآخر فأجهز عليه الإمام عليّ عليه السلام كذلك. واستمات أبناء أبي طلحة لإبقاء الراية مرفوعة، لكنّ الإمام عليّاً عليه السلام قتلهم واحداً تلو الآخر، فحمل الراية خادمهم فضربه الإمام عليّ عليه السلام فقتله؛ امتثالاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بإسقاط الراية. وسقطت راية المشركين إلى الأرض، بعد أن حملها أحد عشر رجلاً، أبادهم الإمام علي عليه السلام. وبدأت بشائر النصر ترفرف فوق رؤوس المسلمين.

2. الحمزة عليه السلام يُثخن المشركين بالجراح: كرّ المسلمون على المشركين وأثخنوهم بالجراح، وكان حمزة بن عبد المطلب عليه السلام قد ضرب وأصاب عدداً منهم امتثالاً لأمر الله تعالى: ﴿فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ﴾، (محمد: 4)، فتساقطوا بين قتيل وجريح، ولاذ الباقون بالفرار، وهُزموا شرّ هزيمة، ورأى المسلمون ما يحبّون.

لم يعد أمام المشركين خيار سوى استخدام الورقة الأخيرة، وهي القوّة الاحتياطيّة للانقضاض على المسلمين من جهة الخلف، لكنّ وجود خمسين مقاتلاً من الرماة المسلمين فوق الجبل، كان حائلاً بينهم وبين ما يشتهون.

* تغيّرت الأحداث فجأةً!
1. معصية أمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: انشغل بعض المقاتلين عن القتال في جمع الغنائم والأسرى، وقد وصفهم القرآن الكريم بأنّهم يريدون الدنيا، وكانت هذه أوّل مخالفة لأمر النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم. شاهد الرماة رفاقهم يغنمون، وطالبوا قائدهم أن يأذن لهم بالنزول عن الجبل؛ لأخذ الغنائم، فنهاهم عن ذلك أشدّ النهي، وذكّرهم بكلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونهيه إيّاهم عن النزول سواء انتصر المسلمون أم انهزموا، لكن دون جدوى. نزل أوّل مقاتل عن الجبل، وتبعه آخر، حتّى بلغ عدد الذين تركوا الجبل أربعين.

2. ابن جبير يقاتل حتّى النهاية: تحرّك المشركون نحو من بقي على الجبل، وعددهم عشرة، فرموهم بالنبال، ورمى عبد الله بن جبير حتّى نفدت نبله، ثمّ طاعن بالرمح حتّى انكسر، ثمّ كُسر جفن سيفه، فظلّ يقاتلهم؛ امتثالاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتّى استشهد.

3. انقلاب المشهد: تفاجأ المسلمون براية المشركين تُرفع من جديد، واجتمعوا تحتها وعادوا للقتال، وهوجم المسلمون من أمامهم ومن خلفهم، وبلغ عدد الشهداء سبعين، وكثرت الجراح بينهم، وقتل بعض المسلمين بعضًا منهم عن طريق الخطأ، ولاذ معظم جيش المسلمين بالفرار، ويصف القرآن الكريم مشهد فرار المسلمين قائلاً: ﴿إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ﴾ (آل عمران: 153).

4. رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جريحاً: كان همّ المشركين بعد أن تفرّق المسلمون هو قتل النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، الذي لم يبرح مكانه، ولم يتزحزح ولم يتراجع قيد شعرة، فأحاط به المشركون من كلّ جانب، وصار ينادي المسلمين ويحثّهم على الثبات، قائلاً: "إليّ عباد الله"، وينادي بعضاً بأسمائهم: "إليّ يا فلان"، يقول تعالى: ﴿وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ﴾، (آل عمران: 153)، والنبل يأتي إليه من كلّ ناحية، ووصل إليه المشركون وضربوه بالسيوف، والرماح والحجارة، حتّى غُشي عليه صلى الله عليه وآله وسلم.

* الإمام علي عليه السلام يواسي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
لم يثبت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحدٌ غير الإمام عليّ عليه السلام، "فنظر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إليه بعد إفاقته، وقال: "اكفني هؤلاء"، فهزمهم عليه السلام عنه، حتّى قصدته كتيبة، فقال له صلى الله عليه وآله وسلم: "اكفني هذه الكتيبة"، فيحمل عليها، وإنّها لتقارب خمسين فارساً، وهو عليه السلام راجل، فما زال يضربهم بالسيف حتّى يتفرّقوا عنه، ثمّ يجتمعون عليه، هكذا مراراً حتّى قتل أربعة أبناء لسفيان بن عويف، وعشرةً ممّن لا تُعرف أسماؤهم، فقال جبريل عليه السلام: "يا محمد، إنّ هذه لمواساة! ولقد عجبت الملائكة من مواساة هذا الفتى"، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "وما يمنعه، وهو منّي وأنا منه؟!" فقال جبريل: "وأنا منكما". وقد سُمع ذلك اليوم صوتٌ من قِبل السماء، ينادي مراراً: "لا سيف إلّا ذو الفقار، ولا فتى إلّا عليّ". فسُئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنه، فقال: هذا جبريل"(3).

بعد ذلك، عاد سبعةٌ من الأنصار وقاتلوا مع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، حتّى استشهدوا جميعاً، ثمّ عاد قسمٌ آخر بلغ الثلاثين رجلاً، فأوقف المشركون القتال؛ خوفاً من تجمّع المسلمين وانقلاب الأحداث لصالحهم.

* أداء التكليف
1. رغم زفافه: أثناء جمع جثث الشهداء، رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الملائكة تغسل حنظلة بن أبي عامر، وقد كان حنظلة في ليلة زفافه، وسمع نداء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فخرج مباشرة ملبّياً النداء قبل أن يتطهّر، فسمّاه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم غسيل الملائكة.

2. رغم الجراح: كان احتمال أن يعاود المشركون الهجوم على المدينة وارداً؛ فنادى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المسلمين أن يستعدّوا للقتال، فخرجوا، ولبّوا النداء، وكان من بينهم ممّن أصيبوا بجراح بليغة، فصار يحمل بعضهم بعضاً. وقد وصف الله تعالى هذا المشهد الرائع قائلاً: ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ﴾ (آل عمران: 172).

* ماذا كشفت أحد؟
كشفت معركة أحد عن وجود فريقين من المسلمين: ﴿رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ﴾، (الأحزاب: 23) فبعضهم قضى شهيداً، وبعضهم ينتظر أن يلقى الله ثابتاً على عهده دون تبديل أو تغيير، ورجال تخلّفوا عن عهدهم، وصاروا يقدّمون التبريرات، فقالوا: "لقد ظننّا أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قد قُتل"، فأجابهم القرآن بأبلغ جواب: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾ (آل عمران: 144)؛ فهل يبرّر لكم مقتل القائد أن تتنازلوا عن مبادئكم؟! وما أجمل ما قيل في أرض المعركة، لمن برّر فراره بأنّ محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم قد قُتل: "قاتلوا على ما قاتل عليه نبيّكم، حتّى يفتح الله عليكم، أو تلحقوا به"(4)، ولكنّ الإشاعات كانت قد فعلت فعلها في غير أهل البصائر.


(1) يراجع: ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 14، ص 234.
(2) وهو عبارة عن جبل صغير يمثل جانباً من جبل أحد، وقد سُمّي بعد المعركة بـ "جبل الرماة".
(3) يراجع: الشيخ الكليني، الكافي، ج 8، ص110 .
(4) الطبري، جامع البيان، ج 4، ص 148.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع