الشهيـد القائـد "أبو مهدي" المهندس(*)
"فقد بعثتُ إليكم عبداً من عباد اللّه، لا ينام أيّام الخوف، ولا ينكل عن الأعداء ساعاتِ الرّوْع، أشدّ على الفجّارِ من حريق النّار، وهو مالك بن الحارث (الأشتر)"(1)؛ هكذا كان عماد.
عماد، ونحن نتحدّث عنه في الذّكرى العاشرة لعروجِه ورحيله واستشهاده، لا يزال حاضراً في كلّ الساحات، في لبنان، في فلسطين، في العراق، في سوريا، في اليمن، وفي كلّ ساحات المواجهة.
* عماد.. المدرسة
عندما أتحدّث عن عماد، أتحدّث عن مدرسة؛ عماد الذي عشتُ معه قرابة العشرين عاماً، وعملتُ معه نحو ربع قرن. ليس الموقف سهلاً عند الحديث عنه.
كان عماد عماداً للمقاومة، وعماداً للتّضحية، وخيمةً للمجاهدين في كلّ السّوح. هو ذلك الشّخص الذي انخرط في المقاومة وفي العمل الجهاديّ منذ الثّانية عشرة من عمرِه، واحترفَ القتال، وخاض الدّورات المختلفة، وشارك في عمليّة تفجير مقرّ الحاكم العسكريّ الصّهيونيّ في صور، كان يبلغ إحدى وعشرين سنة فقط، وكرّرَ ذلك في السنة التالية ليُخرجَ العدو الإسرائيليّ من صور. لقد جاهد لأكثر من ثلاثين عاماً، وكان خبيراً بامتياز في كلّ العمل الأمنيّ والعسكريّ.
* الهدف: فلسطين
بعد أيّام من خروج العدوّ الإسرائيليّ من جنوب لبنان، اجتمعتُ بعماد وبعض الإخوة، وكان السّؤال: ما هو الهدف بعد خروج الإسرائيليّ من لبنان؟ فكانت خلاصة ما قاله عماد: فلسطين. وقد عملَ بكلّ ما استطاع لدعم المقاومة في فلسطين بفصائلها كافّة.
* تغيير المعادلة
لقد واجه عماد هذا السّرطان الجاثم على هذه الأرض، مؤمناً بأنه إذا أراد والمجاهدون، يستطيعون هزيمة أكبر جيوش المنطقة، بمشيئة الله. وقد غيّر عماد في المعادلة: في البداية، كانت العمليّات نوعيّة، وبعد عام 2000م أصبحت ردعيّة، وبعد عام 2006م وحتّى اليوم، أصبحت المعادلة وجوديّة؛ بمعنى أن تبقى "إسرائيل" أو لا تبقى.
* الأخ والسند
بعد عام 2003م، كان عماد هو المؤسّس، والمدرّب، والسّاند، والدّاعم، والأخ الكبير لكلّ فصائل المقاومة التي تشكّلت، ويشهد بذلك قادة الفصائل الذين يحضرون هنا في مجلسِنا هذا. وقد شكّل وحدة خاصّة من الجسم الجهاديّ لحزب اللّه لدعم العراق والعمل الجهاديّ فيه. وقد عملت هذه الفرقة باحتراف وبصبر وبهمّة منذ 2003م وإلى اليوم.
* الذوبان في قادة الأمّة
لقد ذاب عماد في الإمام الخمينيّ قدس سره، وفي الإمام الخامنئيّ دام ظله، وفي سماحة السّيد حسن نصر اللّه (حفظه الله). كان يقول له دائماً: أنا تابع لك. لم أرَه لحظة واحدة يتخلّف عن إرادة سماحة سيّد المقاومة أو أوامره أو طلباته. وكان يده اليمنى التي يضرب بها، ويحافظ بأجفان عيونِه، على حياة سماحته.
* أخوان عزيزان
عندما نتحدّث عن عماد، لا بدّ من أن نتحدّث عن قائد آخر عزيز هو الحاجّ قاسم سليماني. لقد كانا أخوين وصديقين عزيزين، وبهما بُنيت كلّ بُنى المقاومة في لبنان وفلسطين والعراق وغيرها.
كان معنا عماد منذ بداية عملنا الجهاديّ. عندما كنّا أفراداً، كان معنا في كلّ منعطفات هذه المسيرة الجهاديّة، وظلّ كذلك إلى ما قبل يوم استشهاده، متابعاً وراعياً ومقدّماً كلّ وقته في سبيل ذلك. وميزة عماد أنّه يفصل بين الملفّات: ملفّ فلسطين على حدة، وملفّ لبنان على حدة، وملفّ العراق على حدة، وهكذا، ولا يشغله عنها أيّ أمر آخر.
* عماد وما عماد؟!
كلّ من قابله وعمل معه يشعر أنّ عماد له بكلّه. بعد شهادته، جلست مع سيّدنا (حفظه اللّه)، سيّد المقاومة، وقلت له: "شلونك سيّدنا؟"، قال: "عماد من الجبال الثّابتة. كان كمالك الأشتر الذي قال فيه الإمام عليّ عليه السلام: "مالك وما مالك؟ لو كان جبلاً لكان فِنداً"(2). عماد وما عماد؟! لم يكن يهزّه شيء لكثرة شجاعته".
* رأس الحربة
عماد لا يزال حاضراً في عملنا، في الحشد الشّعبيّ. ولقد استعدّ هو والحاجّ قاسم ومجاهدو المقاومة لمواجهة هذا الحدث الجلل الذي مرّ به العراق. عندما صدرت هذه الفتوى المباركة، فتوى سماحة آية اللّه العظمى السيّد السيستاني (حفظه اللّه)، وعندما اندفعت هذه الجموع لمواجهة داعش، كان عماد حاضراً في مقدّمة هذه الجموع، ورأس الحربة في هذه العمليّات والعمود الفقريّ لها وللمقاتلين وللحشد منذ بدايتها وإلى اليوم؛ فأبناء فصائل المقاومة هم طلّاب مدرسة عماد الذين خاضوا هذه العمليّات بكلّ بسالة، وبكلّ ما لديهم من خبرة.
بهؤلاء انتصرنا، بقيادتهم وبتدبيرهم وبعلمهم. هؤلاء الذين قاموا بتدريب عشرات آلاف المقاتلين، واستوعبوا هذا التيّار الجارف والهائل الذي أطلقَه سماحة آية اللّه العظمى السيّد السيستاني (حفظه الله)، هؤلاء هم الذين درّبوا المتطوّعين لمواجهة داعش، حتّى استشهد المئات من طلّاب مدرسة عماد.
عماد درّب آلاف الشّباب، وأخضعهم إلى مختلف الدّورات العسكريّة وبأعلى المستويات. وقد تضاعف عدد شباب حزب الله الذين أرسلهم إلى العراق، فعملوا بكلّ جهد، وحضروا في هذه السّاحة، وكانوا معنا في التدريب والإسناد والتخطيط، وكانوا في مقدّمة هذه العمليّات، واستشهد بعضهم في بداياتها، مثل: الشّهيد السيّد حسن محمّد نصر اللّه، وعبد الحميد شرّي، وإبراهيم محمود الحاجّ. هؤلاء هم الجنود المجهولون المضحّون الأفذاذ الأبطال.
* مجهول في الأرض
من صفات الحاج عماد أنّه كان مجهولاً في الأرض، وذكيّاً، ومتواضعاً إلى حدّ غير متصوّر. إنّني أتحدّى -وأنا الذي عشت وإيّاه مدّة طويلة- أن يذكر لي أحدهم أنّه تحدّث يوماً عن إنجازاتِه الشّخصيّة، لم ينسبْ عماد عملاً لشخصِه. في كلّ هذه الأعمال التي قام بها، على مدى أكثر من 30 عاماً، كان صبوراً على الشّدائد، وتحمّل مرارات عظيمة.
كان شفّافاً، يضحك ببراءة، ولا ينقل ألمه إلى الآخرين. وعندما كان سماحة السيّد حسن (حفظه الله) يمرّ في أوقات ضاغطة، كان يذهب إليه، يجلس إلى جانبه، ويخفّف عنه. لقد كان صديقاً وأخاً وحبيباً ورفيقاً لنا كلّنا، ولكلّ من عمل معه.
* روحه معنا
لا يزال عماد معنا. لا تزال روحه وأرواح شهدائنا من حزب الله، الذين ارتقوا في العراق، معنا. ببركة دمائهم ودماء الشهداء العراقيّين والإيرانيّين استطعنا تحقيق هذا النصر الكبير.
السلام عليكَ أخي وعزيزي وصديقي ورفيقي عماد، يوم وُلدت، ويوم جاهدتَ، ويوم استُشهدت، ويوم استشهد أخواك وابنك. السلام عليكم عائلة الشّهيد عماد. السلام عليكم شهداء حزب اللّه، الذين ارتقيتم على هذه الأرض، أرض المقدّسات، ورحمة الله وبركاته.
(*) من خطاب ألقاه بصفته نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي، في الذكرى العاشرة لاستشهاد القائد الحاج عماد مغنية 23/2/2018م، بغداد.
(1) نهج البلاغة، ج 3، ص 63.
(2) نهج البلاغة، ج 4، ص 103.