أميمة محسن عليق
كانت تتلفت نحو الفضاء الموشح بالغمام تراقب الشمس العاربة من الضجيج لتنشدَ الدفء خلف الأفق...
ترتفع نظراتها فوق أجنحة طائرٍ وحيد لتغط معه على شراع يعبر قلبها تجاه أفكارٍ لا زالت حيةً في رأسها منذ زمن بعيد..
هذا الطائر المهاجر... شيعته بنظرات الحنين... محملةً بالابتهال وهو يدور في حلقاتٍ يبحث عن كنزٍ في مكان ما..
كلما حدَّقت في الطائر تعود إلى أيام طوتها الذاكرة بين ثناياها..
أُخذت مشاعرها تترقرق أمامها.. تذكر كيف ألقى اللَّه سبحانه في طريقها نوراً متلألئاً ونجمةً هاديةً تأخذ بيدها إلى مدارج الكمال العالية..
تذكر كيف إلتقت بزوجها الذي أخرج الطوفان الجارف من العاطفة القابع في قلبها ليصيِّره عملاً دائباً يساهم في بناء الأمنيات التي تحلم بها..
تعيش كلامه فتبتسم وتشعر بالعزم:
"حياتنا ليست محطةً للخلود الدائم، إنما مرحلة يقطعها طيرٌ مهاجر يهبط لبرهةٍ ثم يطير إلى عالم الآخرة...".
فكان قرارها واضحاً: "لم أخطط لحياتي يوماً أن أعيش ضمن سقفٍ وأربعة جدران تعشش في رأسي هموم الخبز والطعام والمعاش، إنما أرغب أن أكون حاملة رسالة إلى بنات جنسي تشعل جذوة الإيمان في أعماقهن وتدفعهن إلى نبذ حياة الترف والاسترخاء بين الزنابق... فالأشواك والجراح ترغم الإنسان على اليقظة والألم..".
فرحت حين لقي كلامها رضاه وإعجابه... وأحست أن هذا الرجل الذي هو زوجها هو قرين النفس والروح...
هامت ومضت في هيامها، تجري اللحظات خفيفة منعشة، يعيدها إلى خلوتها مع نفسها صوت زوجها، يملأ تأملاتها وأحلامها: "ما أشد إحساسي بالغربة.. متى تدق ساعة الرحيل... أحب أن أرحل معكِ لنتصل بالسماء... أحس أن روحي ليست مع الأحياء.
دائماً ترى أن روحها تخفق حباً لروح زوجها المرفرفة..
فأكدت له مراراً إنها لا تبحث فقط عن الدفء في أحضانه بل تبحث عن شعلة تخرجها من القيود التي تربطها بهذه الدنيا.
انطلقت في هذه الحياة ينير دربها حب الكبير لها... ينفض ظلمة الحزن عنها.. كانت تعمل بجدٍ لخدمة الإسلام... تدرِّس حيز العقول الصغيرة... لا تكل ولا تتعب... تناقش، تكتب، تطلب العلم وترسم آفاقاً جديدة وأملاً وأزهاراً أينما حلَّت.
كان حبهما يفوح رقةً وعذوبة وجمالاً... كانا كطفلين يحلمان بالرحيل إلى السماء...
... لا زالت تحسُّ برذاذ المطر ينعش وجهها، كانت بجانبه حين خرجا معاً... كان الوداع الأخير... لم يستطع الانتظار أكثر فقد كان شوقه لرفاقه وللقاء اللَّه سبحانه أقوى من شوق لها...
حين سمعت نبأ استشهاده، إحتوت حزنها العميق... ذرفت دموعاً في قلبها... نهضت بقوة تنطلق إلى المستقبل حيث الذكرى هي الأمل...
حيث تناجي طيفه وتقرأ صلوات الرحمة، تقبل بقاياه...
قرأت آخر ما كتبه لها: "احترم فيك هذا الإيمان الذي يطفو جمالاً هادئاً على محيَّاك... أتمناكِ قلباً مخلصاً، روحاً صافية وعزيمة ثابتة... غداً ستجمعنا إرادة اللَّه تحت ظلال رحمته..، تسكنين في الأحداق وأطبق عليك جفني...".
كلماته تعطيها العزيمة... تعلمها الاستيقاظ في كل لحظة من الحياة... كان استشهاده صرخة ميلادٍ حقيقية دفعتها للأمام... ميلاد كانت تبحث عنه منذ الزمن الماضي.. لصنع زمن حديدية أبوابه كبيرة ومفتوحة دائماً.