نسرين إدريس
اتجهت سيارة الصليب الأحمر عبر المعبر نحو المناطق المحررة، وراح الهواء الرطب يلفح وجهي ببرودة أشعرتني بالحاجة إلى الدفء الذي أفتقده. فمنذ سنتين وأربعة أشهر، وأنا لا أشعر بشيء خلا رطوبة الزنزانة التي قضيت فيها فترة الاعتقال في سجن الخيام...
يا إلهي! هل حقاً هذه المشاهدات حقيقة وليست بسراب يتراءى لي في عتمة المعتقل؟ هل هذه الشمس... السماء... الأشجار؟ ما أروع هذه اللوحات الإلهية الجلية! ما أجمل ألوانها التي تعطي للحياة رونقاً! أخيراً أنا خارج ذلك الكابوس المريع، أمشي بدروب الواقع، وسأصل بعد لحظات إلى حيث ينتظرني بعض أقاربي وأحبتي.. ولكنّ.. ثمّة شخص لن يكون، شخص كلما حاولت أن أرسم وجهه تطاير غبار النسيان أمام ذاكرتي، لا أستطيع أن أذكر منه سوى طيفٍ خلف ستائر شفافة من الذكريات، طيف أشتاق إلى رؤية وجهه لكن... لم يبق لي منه سوى صوت بعيد يأتي من أعماق بئر يفوح منه عبق الزمن الذي مضى..
"علي"، أجل لقد كان اسمه "علياً"، ولا شك أنه الآن يرقد بسلام هانئاً تحت تراب قريته، فقد أخبرني أنه لا يريد أن يشعر بالغربة، لا يريد أن يكون قبره بعيدً عن أي شخص قد يمسح عن بلاط مرقده غبار الأيام..
"علي"... وأشعر بنفسي أعود إلى سنتين وأربعة أشهر خلت، أرفض الاستمرار بالوصول إلى حيث حلمت أن أكون، تذكرت "عابر السبيل" ذاك الذي غيّر مسيرة حياتي كلها وأعطى لوجودي الكثير من المعاني..
كنت مجرد شاب يعيش في قريته المحتلة، لا أهتم بالسياسة، ولا أطالع الجرائد، وقد أعفيت من الخدمة في جيش العملاء لأني وحيد والدي، وأيضاً لأن أحد أقرباء والذي مسؤولٌ أمني للميليشيا المتعاملة، فكنت منهمكاً بعملي في الحقول لأؤمن لقمة العيش لي ولوالدتي المسكينة، التي أفنت عمرها في سبيل تربيتي تربية صالحة بعد وفاة أبي وأنا لا أزال طفلاً صغيراً، ولكنها أغفلت أن كثرة اهتمامها بي قد يؤدي إلى سبيل خاطئ لم نكن لنلتفت إليه لولا "علي" الذي التقيت به صبيحة نهار جمعة في أحد الكروم بينما كنت أقوم ببذر حبات القمح، وذلك عندما شعرت بحركة غريبة وراء جب من البلان الكثيف، دنوت لأرى ما الأمر، فإذا بشاب جريح يئن من الوجع والألم، اقتربت منه وحاولت ربط مكان إصابته البليغة بقماش أمسح به عادة عرقي، وسحبته إلى تحت شجرة ليسند ظهره عليها..
ـ أنت تنزف كثيراً، قلت له وأنا أتلفت حولي رعباً من أن يراني أحد العملاء..
ـ "ساعدني"، قال بصوت يتقطع من الألم..
ـ ولكنك ستورطني بمتاعب جمة..
ـ هذا الجرح الذي ينزف ألماً إنما ينزف لأجلك ولأجل أمثالك، إن كنت تخشى على نفسك فدعني هنا لقدري وارحل..
ـ وماذا ستفعل؟
ـ لا يحق لك سؤالي طالما أنك لا تريد أن تساعدني، فقد تمر دورية لحدية وتلقي القبض عليك، هيا ارحل.. مشيت ببطء محاولاً الابتعاد عنه، وما أن هممت بالرحيل، حتى سمعت فجأة صدى كلمته "ارحل" ولم أكن أدري، أنا التائه في دروب الحياة، أنني عوض الرحيل سأسكن دائرة الحقيقة الواضحة، والجرح الأليم، أدرت ناظريّ إليه فرأيته يتلوى ألماً، عدت إليه، وطلبت أن ينتظرني لأعود، فجئت بالكثير من القش والبلان وأحطته بهما، وسرعان ما ذهبت إلى البيت وأحضرت له بعض الثياب لأنقله إلى المنزل دون أن يلتفت أحد لذلك..
كان الليل قد أسدل ستائره على الدنيا، حين أحضرته إلى المنزل مرتدياً ملابسي، استقبلته والدتي بكثير من الإرباك والخوف، وحاولنا جهدنا أن نخفف من نزفه وألمه، نظرت إلى وجهه، كان شاباً لم يتجاوز الثامنة عشر من عمره، سألته:
ـ ما اسمك؟
ـ علي..
ـ من أي قرية أنت يا علي؟
ـ أنا من كل الجنوب...
ـ ولمن تركت أهلك يا ولدي؟! سألته والدتي بحنو..
ـ للَّه يا حاجة، أولسنا كلنا للَّه؟
ـ ولكنك صغير السن لعمل كهذا.. قلتُ له
نظر إليّ نظرة استغراب وقال:
ـ وأنت لماذا لا تقوم بالعمل الذي أقوم به وأنت كبير السن، أوليست هذه الأرض أرضك، أوليس أولئك الذين يُقتلون برصاص اليهود أبناء أمتك، ألم تشعر يوماً بأن الضعف الذي يعيش بداخلك ثمنه الكثير من الأطفال والنساء والشيوخ.. طبعاً، ولماذا تكلف نفسك طالما أن هناك من يدفع عمره من أجل أن تعيش ضعيفاً، أنت هنا في بيتك، وأنا هنا في دار غريبة قد أموت فيها بين لحظة وأخرى، وقد لا أجد حتى من يغسلني ويكفنني، وقد لا أجد من يذرف دمعة واحدة من أجلي..
ـ أو لا تخشى الموت؟
ـ وهل أنت على قيد الحياة؟ الحياة لم تخلق للضعفاء، أنا أموت لأجل قضيتي، وأنت لمن تعيش؟ وفجأة سمعت صوت دورية، ركضتْ إليّ والدتي قائلة:
ـ إنهم في الخارج، ماذا ستفعل؟
لم تكمل حديثها، فقد خلع أحد المجندين الباب، ودخلوا علينا كالمجانين، فلم يكن بالشيء السهل إخفاء هكذا أمر عنهم، خاصة وأن العيون الخائنة المتربصة بالناس كثيرة، كنت أقف حاملاً قطعة قماش مليئة بالدم، "دم علي"، الذي لم أقدر أن أغسله يوماً عن يدي... عن قلبي، عن وجودي..
راحوا يشتموننا، ويضربون والدتي، ولم أعد أشعر سوى برغبتي بأن يكون جسدي ضماد جرح "علي". عرفت حينها فقط معنى الحياة داخل قضية، أن تكون إنساناً، أن تكون قضية، وإلاّ فأنت خارج الاهتمام الحقيقي للوجود، و"علي" كان قضيتي التي اختصرت وطن، كان المرآة التي طالما احتجتها لرؤية نفسي من جديد..
ـ "لن أدعكم أخذونه"، صرختُ بوجوههم، ورميت بنفسي عليه أخبئه من بنادقهم، وشعرت بأن صوت أمي قد خَفَتْ تدريجياً مع طلقة رصاصة واحدة، كانت نهاية كل شيء، وبداية كل شيء، نظرت إلى دمها النازف وهي ممدة على الأرض، لقد قتلها أولئك الذين زرعوا الضعف في نفوسنا مقابل الحياة، وجاء "علي" ليفتح لي ستائر هذه المسرحية السخيفة عندما سألني: "أي حياة تعيش"؟، وغبت عن وعيي إثر ضربة تلقيتها على رأسي ويدي لا تزال ممسكة بيده..
استيقظت على برودة المياه وصوت ليظ لرجل يعزف السوط الذي بيده لحن إهاناته وشتائمه، وكان ذلك اليوم، اليوم الأول لي في معتقل الخيام، وسجنت بتهمة "إيواء مخربين"! "المخرب" الوحيد الذي آويته، والذي استشهد بين يدي وأنا أحاول أن أحميه، أعطاني كل أحلامه وطموحاته، أورثني الحياة التي كان يعيشها، الحياة التلي ولدت من لحظة موت، المخرب الذي عرفت اسمه الكامل صدفة من أحد السجناء الجدد الذي شاركني زنزانتي.
وعرفت منه أيضاً أن جثته عادت إثر تبادل حصل منذ وقت قصير.. بعد يومين من خروجي من المعتقل، توجهت إلى قرية "علي"، صلتُ إلى قبره، وكانت المرة الثانية التي أراه فيها في حياتي، ولكن هذه المرة مبتسماً ابتسامة رقيقة عذة كان من سوى حظي إني لم أرها في المرة الأولى، مسحتُ بلاط لمثوى بقطعة قماش عليها بقع من دمه كانت منسيةٍ في إحدى زوايا بيتنا المهجور..
أدرتُ ظهري منسحباً من هدوء مسكنه، وهو الذي سكنني بذكريات لا تبارح مخيلتي، "آه يا علي، يا عابر السبيل.. الذي استوطن بساعات مساحات العمر القاحلة، يا شمعة سرعان ما ذابت وانطفأت لتُعلن أنه لا بد من شروق للشمس.. يا عابر السبيل الذي صار ظلي، لستُ سوى صدى لك.. أنتَ البقاء.. وأنا أشرعة الرحيل".