التقوى
تعد التقوى مفهوماً مقدساً، وهي مثل جوهرة ثمينة وشجرة يانعة إن وجدت لنفسها مكاناً في قلب أي إنسان، فستوصله إلى الكمال، كذلك، تعتبر التقوى شرطاً أساسياً لأجل قبول الهداية القرآنية: {ذلك الكتاب لا ريب فيه، هدى للمتقين}(1).
التقوى وسيلة قوية لرفعة الإنسان، وسبيل ممهد لإيجاد القيم الإنسانية والإسلامية لدى الفرد والمجتمع.
فالتقوى لغة هي بمعنى الحفظ والحماية(2)، وبهذا المعنى نفسه تعين التقوى الإنسان على أن يحرس نفسه من معوقات التكامل ومن المعاصي.
وليس من الممكن تحقق التقوى دون إيجاد الأرضية المناسبة لذلك، مثل التدين، اليقين، عشق الحق روحية خوف الله، إلخ، وللتقوى آثار من جملتها: البصيرة، والتغلب على الصعوبات، والوصول إلى الهدف، والحرية، والسكينة، وطهارة العيش، والعاقبة الخيّرة، والسكنى في الجنة... إلخ(3).
* دور التقوى في نجاح حركة الإمام الخميني (قدس سره):
يمكن القول، وبكل جرأة، إن تمام وجود الإمام الخميني قد مزج بالتقوى الأخلاقية والعملية، وإنه نال قصب السبق في ذلك، حيث كان مجاهداً واقعياً في جميع مراحل حياته، واستقرت التقوى عنواناً بارزاً في صحيفة أعماله. وقد وصل إلى أوج الكمال بجناحي العلم والتقوى، وصار أحد النماذج البارزة لهذه الآية الشريفة: {...واجعلنا للمتقين إماماً}(4).
بحق، لم يكن الإمام فرداً ذا تقوى فقط، ولكن كان قائد أمةٍ ذا تقوى ومريداً لله تعالى. فبشهادة جميع الأشخاص الذين تشرفوا بمعرفة الإمام، لم تكن همته فقط منزهة عن التلوث بالمعاصي الصغيرة والكبيرة، بل لم يكن يدنو من المكروهات أيضاً، ويجب القول إن انتصارات الإمام في جميع المواجهات المختلفة، كانت في الحقيقة معلولة لتقواه وخصاله البارزة، لأن نورانية نفسه وعمله المتقن، كانا ينشآن من تقواه. فمجاهداته الطويلة لترك المعصية، وفي سبيل الله، أعقبتها الهداية والعون الإلهيين.
فالإمام قد تسلّط في البدء على مملكة روحه، وقاد زمام نفسه، ومن ثم صار قائداً للعالم الإسلامي، بدايةً، هزم الإمام قوى نفسه الأمارة ومن ثم تغلَّب على القوى العالمية الشيطانية، وكان انتصاره في ساحات المواجهة الظاهرية مرهوناً بالانتصار في ساحات الجهاد الأكبر، حيث: {والذين جاهدوا فينا لنهدينَّهم سبلنا}(5).
إنَّ أبعاد تقوى إمام الأمة متشعبة، وهنا نرسم صور بعضها:
1- الخوف من الله تعالى:
الخوف من الربِّ والأمل بفضله، شبيهان بخطي الكهرباء الإيجابي والسلبي، كلما وجدا طريقاً إلى قلب الإنسان، فإنهما يخلقان فيه النور والدفء، ويضيئان الروح، ويطهران الملكات الإنسانية الفاضلة، الخوف من الله، يوجد الإحساس بالمسؤولية ويولد الحركة لدى الإنسان.
القرآن الكريم يمدح عباد الله الصالحين بهاتين الصفتين (الخوف والرجاء) فيقول: {ويرجون رحمته، ويخافون عذابه}(6).
لقد كان القائد الكبير للثورة الإسلامية نموذجاً لهذه الآية، وبحراً من الخوف والرجاء، لقد كان جميع أمله بالله وكل توكله عليه سبحانه، وكانت تقاس جميع تحركاته بمقياس طلب الحق تعالى. وبملاحظة جلال الله وعظمته، كان الإمام يرى نفسه في محضره فيشعر بالخوف. لقد كان مصداقاً مضيئاً لحديث الإمام الصادق (عليه السلام) الذي قال: "من خاف الله أخاف الله منه كل شيء..."(2).
وفي الوقت الذي كان الإمام يبكي في جوف الليل، ويرتجف من خوف الله، كان يُرجف العالم بنداءاته وأحاديثه الساحقة، وبذل القوى العظمى المستكبرة، ولم يكن حاضراً في أي وقت أن يغفل لحظة عن الله تعالى.
يقول آية الله صانعي: "حينما كنا في الماضي ندرس عند الإمام، كنا نذهب في الصباح الباكر إلى منزله للسؤال عن حاله، ونتشرف بخدمته لعدة دقائق، نفس هذه الحالة من المراقبة التي هي لديه الآن، كانت لديه أيضاً في ذلك الوقت، أيّ أن الإمام يراقب دائماً ذاته أن لا تبتعد لا سمح الله لحظة واحدة عن ربها، وأن لا تترك لا سمح الله العلاقات والاجتماعات والشخصيات البارزة أثراً فيه"(8).
وقد نُقل عن الحاج السيد مصطفى (رحمه الله) ما يلي: "توسطت عند الإمام لأحد الطلبة، وكنت أريد أن أخذ مالاً من الإمام وأعطيه له، لكنّ الإمام لم يرتب أثراً على ذلك، فتوسطت لمرة ثانية وثالثة، فقال الإمام في جواب طلبي: مصطفى! المال موجود في ذلك الدُّرج، وهذا أيضاً هو مفتاحه.. فخذ كل ما تشاء من المال، وأعطه لذلك الطالب، فلا مانع من هذا الأمر بشرط واحد وهو أنه يجب أن تذهب بنفسك أنت إلى جهنم، أما أنا الآخر فلست حاضراً أن أمنح هذا الطالب، على عدم أهليته، مال سهم الإمام"(9).
كان الإمام يمتنع حتى عن وضع حذائه على الجريدة، لاحتمال أن تكون حاوية لاسم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أو علي (عليه السلام)"(10).
2- التوقي من المعصية
يجب أن تلقّح روح الإنسان- كما بدنه- ضد فيروس المعصية! وإلاَّ فإنها ستبتلى بأمراض غير قابلة للعلاج، وخير طريق لسلامة الروح هو التحفظ والاتقاء عن المعاصي والذنوب.
يقول الإمام علي (عليه السلام) في هذا الشأن: "اجتناب السيئات أولى من اكتساب الحسنات"(11).
كان مؤسس الجمهورية الإسلامية رائداً في هذا الميدان، ولم يكن يسمح أبداً أن يلوث محيط عيشه بالمعصية، وحينما كان الإمام يتواجد في مجلس عام، لم يكن لأيّ أحد جرأة على الاغتياب أو البهتان؛ وكذلك في المجالس الخاصة لم يكن أحد ليتجرأ على الإتيان على ذكر آخر، ولمرات عديدة كان الإمام يقول: "أنا لست راضياً أن يُغتاب خارج منزلي"(12)، وكان يمنع الأفراد بكل قوة من الاغتياب.
يقول أحد طلاب الإمام؛ "يوماً، حضر الإمام إلى الدرس، وكان مستاءً إلى الحد الذي كان نَفَسُه يمكن أن يحصى، وبدلاً من الدرس قدم موعظة سريعة، وغادر، ولم يأت بعدها لثلاثة أيام. لماذا؟ لأنه سمع أنَّ واحداً من طلابه كان قد اغتاب أحد المراجع"(13).
"منذ أيام الشباب، وفي كل مجلس كان الإمام قد جلس فيه، لم يكن يسمح بأي شكل أن يقع أحد في الغيبة، وإن كان شخص ما يتحدث، ويريد أن يشرع بالغيبة، كان الإمام يقطع الكلام فوراً ويغيّر مسار الحديث"(14).
2- التقيّد بالعقود:
من وجهة نظر الإسلام، هناك نوعان من الحق، يقعان على عاتق كل فرد؛ حق الله وحق الناس، النوع الأول هو الحقوق التي قد أوجبها الله على عبده وألزمه بها، كمثل الصلاة والصيام والحج.. إلخ، والنوع الثاني هو الحقوق التي يتحملها الناس على عاتقهم، بشكل أعم في الارتباط في ما بينهم كمثل الخمس والزكاة والجهاد، والأمر بالمعروف إلخ، حيث كان إنسان مكلَّف أن يؤدي الحقوق في وقتها وبدون أي انتقاص.
يقول الإمام علي (عليه السلام) في هذا الشأن: "ثمَّ جع سُبحانه من حقوقه حقوقاً، افترضها لبعض الناس على بعض..."(15).
إن حياة القائد الكبير للثورة الإسلامية هي مظهر لذلك، حيث لم يتعدّ على أي حق، بل كان راعي الحق بشدة. ففي أحداث انقلاب "توجه" طلب أحد الأصحاب المقربين من الإمام، أن يلغي حكم إعدام أحد الانقلابيين، ولكن الإمام يجيب على طلبه بالقول: "مع كل المودة التي أكنها لكم، لا أستطيع أن أقدّم رضا الخلق على رضا المخلوق.. يجب أن يُنفذ حُكمُ الله"(16).
كان حضرة الإمام يعطي عصر كل يوم خميس درس أخلاق في المدرسة الفيضيَّة، في أحد تلك الأيام، كانوا قد فرشوا سجادة في طريق الإمام، فخلع الإمام نعليه حتى لا يدوس في مروره على السجادة، ولكن دخل أحد الطلاب وسار على السجادة بالحذاء، فقال الإمام: "لا تدخلوا منتعلين الحذاء، فالسجادة مخصصة للصلاة"(17).
وفي مورد حق الناس، كان الإمام يعتبر حقاً أن تشكيل حكومة إسلامية بدون دعم الناس محال. لذا كان يؤكد بشكل دائم على دور الناس في انتصار الثورة، ويخاطبهم بلغة أنهم الأصحاب الأساسيون لها، وأولياء نعمة المسؤولين، ويعتبر نفسه خادمهم، ولم يتحدث أبداً عن قيادته وجهاده، كان يسعى حتى في المسائل الصغيرة والعديمة القيمة أن لا يضيّع أصغر حق للناس.
يقول أحد أصحاب الإمام: "في أحد الأيام أراد الإمام في النجف أن يدخل إلى الصحن الخارجي، وعندما وصل إلى مكان وضع الأحذية، توقف وامتنع عن الدوس على أحذية الناس، وأمر أن يجمعوها من طريق الناس"(18).
3- الاحتياط في العمل
تُعد مراقبة الأعمال، والاحتياط والدقة في تنفيذها الشرط الأساسي للانتفاع بالأعمال. فقد تمَّ التأكيد على الاحتياط في العمل، بقدر ما تم التحذير من الوسوسة، يقول الإمام الصادق (عليه السلام) في هذا المورد: "خذ بالاحتياط في جميع ما تجد إليه سبيلاً"(19).
كان الإمام الخميني (قدّس سره) فرداً محتاطاً، ولم يكن يخطو نحو القيام بأي عمل دون احتياط، فعلى سبيل المثال: "كان لدى الإمام بالنسبة للأمور المالية احتياط فوق العادة، فمثلاً إن كان يريد عصير ليمون، كان يأمر بأن يُحضروا مقدار كوبٍ واحد. وكلما كان المتشرف بخدمته يُصر على أن يُحضر زجاجةً، كان يقول: "كلا! أحضروا المقدار اللازم فقط"(20).
وقد نُقل عن المرحوم الحاج السيد أحمد (الخميني): قُرب الارتحال، استدعى الإمام أهل البيت، أنا وزوجتي وأخواتي الأخريات جئنا واجتمعنا حول فراش الإمام.. قال الإمام: "إن هذا الطريق طريق صعب بالفعل. كونوا مراقبين لأعمالكم وأقوالكم"(21).
4- البعد من المكروهات
كان الإمام شخصاً فريداً في ترك الأمور المكروهة وغير اللائقة، وكان دائماً مواظباً على أن يبقى بعيداً عن أدنى عمل غير مرغوب.
يقول أحد مدرسي الحوزة العلمية في قم: "حيث كنت قد اشتركت لأكثر من اثنتي عشرة سنة في دروسه العالية، فإنني لم أرَ طوال هذه المدة عملاً مكروهاً واحداً يصدر منه، بل إن كانت تبرز شبهة غيبة أو كذب... إلخ، كانت تظهر عليه حالة الاضطراب"(22).
"كان يراعي بشأن المسائل الأخلاقية، ولقاءاته مع الآخرين صغائر الأمور الدقيقة. وبالفعل كان سلوكه وتصرفه ومآثر أعماله الأخرى درساً لنا"(23).
5- الدقة في صرف الأموال العامة
لرعاية الأموال العامة وحفظها، والدقة في صرفها، أهمية خاصة في الإسلام، وعمق نظرة قادة هذا الدين المربّي للإنسان بشأن أمر بيت المال، هو من أكثر مقاطع حياة أولئك الرجال العظام منحاً للعبرة.
يكتب الإمام علي (عليه السلام) إلى عماله في هذا الشأن: "صادقوا أقلامكم وقاربوا بين سطوركم واحذفوا من فضولكم"(24).
كان العلماء العظام يحتاطون كثيراً في أمر الأموال العامة، ولم يكن يستفيد كثير منهم من سهم الإمام و"الشهرية"(25)، وفي وسط، هؤلاء برزت شهرة عامة وخاصة لباني الجمهورية الإسلامية، حيث سيفرد بحث منفصل حول دقة الإمام (قدّس سره) واحتياطه بشأن بيت المال وصرف الأموال العامة
(1) سورة البقرة، الآية2.
(2) مفردات القرآن، الراغب الأصفهاني، ص520.
(3) ربك: المقالات العشر، الشهيد المطهري، المقالة الأولى والثانية؛ وميزان الحكمة. ج15، عنوان 556.
(4) سورة الفرقان، الآية 74.
(5) سورة العنكبوت، الآية 69.
(6) سورة الإسراء، الآية 57.
(7) وسائل الشيعة، ج11، ص172.
(8) المذكرات الخاصة، ج، ص38.
(9) المصدر نفسه، ج6، ص123.
(10) المصدر نفسه، ج4، ص24.
(11) شرح غرر الحكم ج1، ص293، طبعة الجامعة.
(12) مجلة "بإسدار إسلام"، العدد 14، ص24.
(12) المذكرات الخاصة، ج5، ص164.
(14) سمات الحكماء، ج2، ص104.
(15) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج11، ص91، ج209.
(16) مجلة "بإسدار إسلام" عدد 93، 29.
(17) المذكرات الخاصة عن حياة الإمام الخميني (قدس سره) ج2، ص24.
(18) المذكرات الخاصة، ج1، ص100.
(19) بحار الأنوار، ج2، ص260، الطبعة الإسلامية.
(20) المذكرات الخاصة، ج2 ص148.
(21) جريدة "جمهورية إسلامي"، بتاريخ 17 خرداد 1368هـ.ش.ص6.
(22) المذكرات الخاصة، ج5، ص164.
(23) المصدر نفسه، ج4، ص126.
(24) بحار الأنوار، ج41، ص105.
(25) سمت الحكماء، ج2، القسم 15.