نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

هدية المعراج


روح الله الموسوي الخميني


نص الرسالة التي بعثها الإمام الخميني قدس سره إلى نجله السيد أحمد  وهو يهديه نسخة من كتاب سر الصلاة.

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وصية من أب عجوز قضى عمراً بالبطالة والجهالة، وهو الآن سائر إلى العالم السرمدي بيد خالية من الحسنات، وصحيفة سودتها السيئات؛ وأملي هو بمغفرة الله، ورجائي هو بعفو الله...
إلى ابن شاب تواجهه مشاكل الزمان، وهو مخير بين سلوك الصراط الإلهي المستقيم "هداه الله تعالى بلطفه اللامتناهي"، وبين اختيار طريق آخر.. والعياذ بالله ـ حفظه الله تعالى برحمته من مزالقه".
أي بني، الكتاب الذي أهديه لك (1) هو نفحة عن صلاة العارفين والسير المعنوي لأهل السلوك؛ رغم أن قلم أمثالي عاجز عن تبيان قصة هذا المسير، وأعترف بأن ما كتبته لم أخرج به عن حد بعض الألفاظ والعبارات؛ وأنا نفسي لم أحصل إلى الآن على بارقة من هذه النفحة.

ولدي... في هذا المعراج، هنا الغاية القصوى لأهل المعرفة؛ وقد قصرت أيدينا نحن عنها: لُمّ الشباك، فالعنقاء لا تقع فريسة أحد (2)، ولكن لا ينبغي لنا اليأس من ألطاف الله الرحمن، فهو جلّ وعلا الآخذ بأيدي الضعفاء وهو معين الفقراء.

عزيزي... الحديث (3) هو عن المسير من الخلق إلى الحق، ومن الكثرة إلى الوحدة، ومن الناسوت إلى ما فوق الجبروت إلى حد الفناء المطلق الذي يحصل في السجدة الأولى، والفناء من الفناء، وهو الحاصل بعد الصحو في السجدة الثانية: وهذا هو تمام قوس الوجود من الله وإلى الله، وبحال تمامه فليس هناك ساجد ومسجود له، عابد ومعبود.

ولدي... إنّ أول ما أوصيك به هو اجتناب نكران مقامات أهل المعرفة؛ فهذه سنة الجهّال، واتق معاشرة منكري مقامات الأولياء، فهم قطاع طريق الحق...

بُني... تخلّص من الأنانية والعجب بالخضوع لولي الله جل وعلا وصفه، فهما ارث الشيطان، فبالعجب والأنانية تمرّد على أمر الله تعالى، وأعلم أن جميع ما يحل ببني آدم من مصائب ناشئة من هذا الإرث الشيطاني، فهو أصل أصول الفتنة، ولعل الآية الكريمة:  ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾  (5) تشير في بعض مستوياتها إلى الجهاد الأكبر، وقتال أساس الفتنة الشيطان الأكبر وجنوده الذين لهم فروع وجذور في أعماق قلوب بني الإنسان، وعلى كل إنسان أن يجاهد لإزالة منابع الفتنة من داخل نفسه ومن خارجها، وإذا ما حقق هذا الجهاد النصر صلحت الأمور كافة وصلح الجميع.

بُني... اجتهد للوصول إلى هذا النصر، أو بعض درجاته، أشدد أحزمة العزم وحد من الأهواء النفسانية التي لا حد لها ولا حصر واستعن بالله جلّ وعلا، فلا وصول لشيء بدون عونه، والصلاة ـ معراج العارفين ومسلك العاشقين ـ هي سبيل الوصول إلى هذا المقصد ولو وفقت ووفقنا إلى تحقيق ركعة واحدة منها، ومشاهدة الأنوار المكنونة فيها، ومعرفة أسرار ما ترمز إليه ـ ولو على قدر ما نطبّقه نحن ـ لو حصل هذا التوفيق لحصلنا على نفحة من مقصد ومقصود أولياء الله، ولشاهدنا صورة مصغّرة لصلاة معراج سيد الأنبياء والعرفاء عليه وعليهم وعلى آله الصلاة والسلام ـ أسأل الله المنّان أن يمنَ علينا بهذه النعمة العظيمة.
الطريق طويل إذاً وخطير للغاية ويستلزم الكثير من الزاد والراحلة، وزاد من هو مثلي إما معدوم أو غاية في القلة؛ فما من أمل ـ إلاّ أن يشملنا لطف الحبيب جل وعلا، فيأخذ بأيدينا.

عزيزي... استثمر ما بقي من الشباب ففي الشيخوخة يضيع لك شيء حتى الالتفات إلى الآخرة والتوجّه إلى الله تعالى.
إن من كبريات مكائد الشيطان والنفس الأمّارة بالسوء، هي أنها تُمني الشباب بالصلاح والإصلاح، عندما يصلون إلى الشيخوخة فتُخسرهم شبابهم، ويضيع بالغفلة؛ أما الشيبة فتمنّيهم بطول العمر، وحتى اللحظات الأخيرة، تحجز النفس ـ بوعودها الكاذبة ـ الإنسان عن ذكر الله والإخلاص له، حتى يأتي الموت، وحينها تأخذ منه الإيمان إن لم تكن قد أخذته كاملاً حتى ذلك الحين.
فانهض للمجاهدة وأنت شاب تمتلك قوة أكبر، واهرب من كل شيء ما عدا محبة الله عز وجل، وعزز بما استطعت ارتباطك به تعالى، لو كان لديك ارتباط به؛ أما إذا لم يكن لديك ذلك ـ والعياذ بالله ـ فاحصل عليه وقوّه، فليس هناك من يستحق الارتباط به سواه تعالى، وإذا لم يكن التعلّق بأوليائه تعالى تعلّقاً به، ففيه حيلة من حبائل الشيطان الذي يسد الطريق إلى الحق بكل وسيلة.

لا تنظر أبداً إلى نفسك وعملك بعين الرضا، فهكذا كان حال أولياء الله الخلّص، وكانوا يرون أنفسهم بأنها لا شيء، وأحياناً كانوا يعتبرون حسناتهم من السيئات. بُني: كلما سما مقام المعرفة، تعاظم الإحساس بحقارة ما عداه جل وعلا..

في الصلاة، وهي مرقاة الوصول إلى الله، هناك "تكبير" وارد بعد كل ثناء، مثلما أن دخولها هو الـ "تكبير" إشارة إلى أنه أكبر من كل ثناء وحمد، حتى أعظمه المتمثل بالصلاة، وبعد الخروج منها هناك "تكبيرات" توصل إلى أنه أكبر من توصيف الذات والصفات والأفعال، ماذا أقول، من يصف وبأي وصف، ومن الذي يصفه، وبأي لغة وأي بيان يصف، وكل العالم من أعلى مراتب الوجود إلى أسفل سافلين لا شيء، وكل ما هو موجود هو تعالى ـ ولا غير، فماذا يمكن أن يُقال عن الوجود المطلق؟! ولولا أمر الله وإذنه جلّ وعلا، فربما لم يتحدث عنه شيء أي من أوليائه رغم أن كل ما هو موجود حديث عنه لا عن سواه، والكل عاجزون عن التمرد على ذكره فكل ذكر ذكره ولعلها بلسان الحق إلى جميع الموجودات، وهذه أيضاً بلسان الكثرة، وإلاّ فإنّه هو الحمد والحامد والمحمود "إن ربك يصلي" (9)

ولدي... ما دمنا عاجزين عن شكره ـ تعالى ـ ونعمائه التي لا نهاية لها، فما أفضل ـ لنا من أن لا نغفل عن خدمة عباده فخدمتهم خدمة للحق ـ تعالى ـ ولو أن الجميع منه.
لا ترى لنفسك أبداً فضلاً على خلق الله عندما تخدمهم، فهم الذين يمنون علينا حقاً بفضل كونهم وسيلة الله جل وعلا؛ ولا تسعى لكسب الشهرة والمحبوبية من خلال طريق الخدمة، فهذه بحد ذاتها حيلة من حبائل الشيطان الذي يوقعنا في شباكه.
واختر في خدمة عباد الله ما هو أكثر نفعاً لهم، لا لك ولا لأصدقائك، فهذا الاختيار علامة الصدق في الحضرة المقدسة لله جل وعلا.

ولدي العزيز... إن الله حاضر والعالم حضوره، ومرآة أنفسنا هي إحدى صحائف أعمالنا، فاجتهد لاختيار كل عمل يقرّبك إليه ـ تعالى ـ ففي ذلك رضاه جل وعلا.
لا تعترض عليّ ـ في قلبك ـ أن لو كنت صادقاً فلماذا أنت نفسك على غير هذه الحال، أنا نفسي على علم بأني لا أتصف بأي من صفات أهل القلوب، وأخاف أن يكون هذا القلم الكسير في خدمة إبليس، والنفس الخبيثة فأحاسب على ذلك غداً، ولكن أصل المطالب الآنفة حق، وإن كانت مكتوبة بقلم من هو مثلي، حيث لست بعيداً عن الخصال الشيطانية، أعوذ بحصن الله تعالى، وأنا أتنفس أنفاسي الأخيرة راجياً من أوليائه جل وعلا الشفاعة، وأن يأخذوا بيدي.
اللهم... خُذ أنت بأيدي هذا العجوز العاجز وأحمد الشاب، واجعل عواقب أمورنا خيراً.
اللهم... واجعل لنا سبيلاً إلى حضرة جلالك وجمالك برحمتك الواسعة.
والسلام على من اتبع الهدى
 


(1) الرسالة الوصية هذه كتبها الإمام الراحل (قدس سره) مع نسخة من كتاب (سر الصلاة) ـ الذي ألّفه الإمام بالفارسية ـ أهداها لولده السيد أحمد.
(2) ترجمة لصدر بيت من أشعار العارف الإيراني حافظ الشيرازي، والعنقاء طائر أسطوري يرمز به إلى العظمة.
(3) المقصود هو موضوع كتاب (سر الصلاة) آنف الذكر.
(4) الحديد: الآية 3.
(5) البقرة: الآية 193.
(6) الإسراء: الآية 22.
(7) الحمد: الآية 4.
(8) الإسراء: الآية 44.
(9) حديث شريف يورده الكليني في أصول الكافي ج 2 ص 329، كتاب الحجة، باب مولد النبي، حديث رقم 13.
(10) النور: الآية 35.


 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع