د. زينب الطحان
- ليتني لم أجارِه، لماذا لمّا يترجّل بعدُ من على المنبر؟ يا ربّ.
يردّد قوله هذا مرّات، وهو يذرع أرض غرفة المراقبة والرصد جيئة وذهاباً. يتوقّف عند مرور إشارة حمراء خاطفة على شاشة أحد الأجهزة، وترتفع نبرة صوته عالياً مخاطباً المراقب: حدّد مصدرها بسرعة.
أصدر جهاز اللاسلكي صوتاً فجأة، نظر إليه، وقال: والآن ماذا؟!
- بدأنا نلحظ في هذه الأثناء آليّات عسكريّة عديدة تصطفّ عند بوابة فاطمة، لست مطمئناً، وسماحة السيّد حسن لا يزال على المنبر!
- كُنْ أكيداً، في حال قامت "إسرائيل" بأيّ فعل متهوّر، ردّنا سيكون قاسياً للغاية، وهي تعلم ذلك، ولقد وصلها تهديد مباشر وواضح لا لبس فيه.
- هذه الـ"إسرائيل" أنت تعلم جنونها، أمام احتمال نجاحها في اغتيال سماحة السيّد، لن توفّر أيّ فرصة تحين لها.
لم يجب محدّثَه، بل التفت إلى المراقب، وقال له معاتباً: ما زلت أنتظر!!
- إنّها "إم كا" جديدة انضمّت إلى سرب الأخريات المنتشرة في سماء لبنان في هذه الّلحظات، ومناطيد جديدة أيضاً تحمل كاميرات متطوّرة.
تابع حديثه مع المتصل المنتظر على الهاتف: اسمع، ما يقومون به متوقّع، يريدون أن تحترق أعصابنا خوفاً، وأن ينغصّوا علينا فرحتنا بهذا الانتصار التاريخي، إنّها حركات استعراضيّة لتوهم المراقبين الدوليّين بقدرتها على السيطرة على الأفق، فابقَ مطمئناً، لكن حذراً، وتصرّف عند أيّ حركة عدوانيّة يقدمون عليها.
ولكنّه هو نفسه لم يستطع أن يشعر بهذا الاطمئنان. أعاد النظر إلى شاشات أجهزة المراقبة أمامه. تماماً، كلّ شيء متوقّع، غير أنّ هذا الإحساس بالقلق الخفيّ، لا شيء بإمكانه تهدئته، حتّى ينهي الخطيب خطابه، وينزل عن المنبر. أغمض عينيه، فحوارهما لا يزال ماثلاً في ذهنه: لماذا تصرّ سيدنا على ذلك، وفي الأمر خطورة على حياتك؟!
- اسمع، حياتي لم تكن بالنسبة إليّ في يوم من الأيام أغلى من حياة المجاهدين، ومن حياة هؤلاء الناس الشرفاء القادمين للاحتفال بهذا النصر الكبير، الذين بقوا صامدين على مواقفهم وإخلاصهم للمقاومة مع كلّ ما مرّوا به من تشرّد وألم وفقدان الأهل والأحبّة.
- هذا سببٌ في حدّ ذاته، لكونك تعلم جيّداً مدى تعلّق هؤلاء الناس بك، وما تمثّله لهم.
- وهو تحديداً ما يدفعني إلى الصعود مباشرة إليهم وأمامهم، وإنّي لأخجل لو عدلت عن ذلك. أعلم مدى حرصك الشديد على حياتي، ولكن انظر إلى الأمر من ناحية أخرى.
كان يعلم ما يقصده سماحته، بعد الخروج من معركة كبرى دامت 33 يوماً، لأوّل مرّة في تاريخ الصراع مع هذا العدوّ يذوق طعم الهزيمة. وظهور السيد أمام الناس سيكون رسالة قويّة بأنّ عزم المقاومة بات أقوى.
حسم السيد الموقف بالاستخارة التي قد تطمئن صاحبه، لكنّه جعل الميدان ساحة استنفار، ألهب كلّ الأجواء من حوله. كان العاملون في فريقه خليّة نحل لا تهدأ، وهو يوكل إليهم أوامره ونواهيه، ومع كلّ ذلك، هو لم يكلّ، ولا يزال ذلك القلق الخفيّ مسيطراً عليه، وهو ينظر إلى الساعة بين الفينة والأخرى، ورسائله تصل تباعاً إلى خطيب المنبر تطالبه بالترجّل حالاً، وهو يتمتم همساً: "لن أسامح نفسي إنْ حدث له شيء".
لم ينتبه إلى أنّ همسه هذا، كان حفيف روحه الذي تناهى إلى مسامع الحاضرين. لم يبرح ذلك الهمس، وهو يتمتم بصلواته، ويفرك عينيه اللّتين ازدادتا احمراراً، فهو منذ ليلة أمس لم ينم، يغادر غرفة العمليّات، يلتحق بالسيل البشريّ الذي لفّ حدود الضاحيّة الجنوبيّة، ورسمها بألوان الأعلام الصفراء، وصدى الهواء يردّد صوت الجماهير: "لبّيك يا نصر الله". يقترب من المنصّة حيث الخطيب، والذي يثير وقوفه فوق المنبر كلّ هذا الوقت الرعب في قلبه، يبتسم لمن حوله، يوزّع على بعضهم إشاراته المبطّنة، ولا يحتمل البقاء، يعود ليقتفي أيّ تطور يدور في السماء.
عاد إلى غرفة العمليّات، جلس على كرسيّ منزوٍ قرب الراصد، يضع رأسه بين قدميه، وهو يتمتم بتلك الصلوات الخفيّة، نهض فجأة، وهو يسمع الخطيب يقول: "زمن الهزائم قد ولّى، وقد جاء زمن الانتصارات".
- أجل، إنّه زمن الانتصارات، هيا اختم بها خطابك، وانزل أرجوك.
يراه أمامه يغادر المنبر، ويحيط به الحرّاس، تضجّ سماء الضاحية برعدٍ ينبثق من حنايا الأرض، تلفّت الحاضرون فجأة، رأوه يفترش سجادة الصلاة، وأطال مكوث الجبين على وجه تلك التربة، تسلّلت دمعته، لتبرق في عيونهم، سَحب علباً من الحلوى كانت مرصوفة فوق أحد المكاتب، وراح يوزّعها عليهم واحداً، واحداً، وهو يقول: "الحمد لله على سلامة السيّد، مرّت على خير، (زمطنا)". ضحكت عيونهم لأجل فرحته وابتسامته العريضة، وهو يغادرهم. طالبوه بالبقاء معهم؛ ليكون للعشاء مذاق خاصّ مع هذا القائد الغريب، الذي حطّ عليهم فجأة، رفع لهم يده مودّعاً، وابتسامته العريضة تكتسح معالم وجهه. سأل أحدهم: تُرى مَن يكون؟! وما هذا الشغف الكبير بحبّ "سماحة السيّد"؟