سير في وصية الإمام لابنه السيد أحمد: السعي إلى العمال
السيد عباس نور الدين
اعلم أن في الإنسان ـ إن لم أقل في كل موجود ـ حباً فطرياً للكمال المطلق، وحباً للوصول إلى الكمال المطلق. وهذا الحب يستحيل أن ينفصل عنه.
حب الكمال المطلق هو الفطرة الأصيلة المودعة في أعماق الإنسان، وهي المعبرة عن أصل خلقته. فلا معنى للإنسانية دون هذا الحب الذي يوجه كل أفعال البشر ويتحكم بأنشطتهم.
إنه الحب لكمال لا حد له ولا منتهى. هذا الكمال الذي يتجلى في القدرة والعلم و الحياة وكل صفات الخير ومراتب الشرف. وإن حب أي كمال أو جمال ينبع من حب الكمال المطلق. وسرعان ما يترجم هذا الحب بالسعي للوصول إلى المحبوب. بل إن أي سعي يقوم به الإنسان ليس إلا حركة باتجاه المحبوب الذي يرى فيه صاحب السعي الكمال المنشود.
أما لماذا يتحمل الحب هذه المسؤولية الكبرى؟ فذلك لأن وجود الإنسان قد ركّب على هذا الأساس، ومن هنا نفهم لماذا ورد في الحديث أن الدين هو الحب. ونقترب من الآية الشريفة: {يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم}.
وإذا عرفنا حقيقة الإنسان ندرك معنى الكلام السابق. فالقلب هو المسؤول والآمر المباشر لبدن. أي أن جميع تحركات الإنسان ليست إلا تعبيراً عن توجهات القلب وتعلقاته. وفي الحديث أن الإنسان يوم القيامة يحشر مع من أحب. لأن الأعمال التي تكون زاد الحساب في ذلك المحشر هي الترجمة الواقعية لما فيه قلب الإنسان.
إن الله سبحانه وضع هذا الحب في الإنسان. إن لم نقل في كل موجود ـ وجَبَل فطرته على أساسه. فهو عزّ وجلّ قد جعل كل موجودات العالم عاشقة للكمال المطلق الذي يقابل الكمال المحدود. وإذا لم يصل الموجود إلى هذا الكمال اللامتناهي فلا يكون قد وصل إلى شيء أبدً. لأنه لا كمال مقابل الكمال المطلق. ولعله في مناجاة أمير المؤمنين عليه السلام إشارة إلى هذا المعنى الدقيق:
"إلهي ماذا وجد من فقدك، بل ماذا فقد من وجدك" وهذا الحرمان الذي يقابل العرفان هو باطن وحقيقة جهنم التي هي مكان البعد والهجران:
"إلهي هبني صبرت على عذابك فكيف أصبر على فراقك".
وفي الحديث أن الله سبحانه خاطب موسى عليه السلام وأخبره بأن هناك عذاباً أشد إيلاماً من عذاب النار. فسأل موسى عليه السلام عنه. فقال الله له ذاك حرمت عبدي من لذة مناجاتي.
النقطة الأولى إذاً في وصية الإمام هي التي تتعلق بمعرفة الفطرة الإنسانية التي جاءت الشريعة الإلهية مطابقة لها. وعلى أساسها بنيت تعاليم الدين، والرجوع إليها يعد غاية للسالكين.
إن فهم هذه النقطة بالذات هو أول الطريق في مسلك العرفان. وبدون معرفتها يبقى الإنسان بعيداً عن معرفة الألوهية، لأن الطريق إلى معرفة الرب هو معرفة النفس. وفي حديث أمير المؤمنين عليه السلام المروي في الغرر والدرر: "الجاهل بنفسه فبغيرها أجهل". وعنه عليه السلام: "من لم يعرف نفسه لم يعرف ربه".
إن وجود هذا العشق للكمال المطلق في كل موجود هو رشحة من فيض الله ومظهر لفيضه الأقدس. وإنكار هذا الحب، فضلاً عن أنه يقطع طريق الارتباط، يوصل إلى إنكار صفات الرب المتعال.
أما النقطة الأخرى المتفرعة من هذا الأصل فتتعلق بالوصول إلى الكمال المطلق الذي جعل في أصل فطرة الإنسان. أي أن حب الكمال المطلق ليس أمراً جامداً، بل أنه يتحول مباشرة إلى سعي حثيث للوصول إليه. ويستحيل أن ينفصل هذا الأمر عن وجود الإنسان. فإذا أحب الإنسان شيئاً أراد الوصول إليه. وإذا كان هذا الحب أصيلاً فيه، أي موجوداً بإيجاد من الله سبحانه، فإن إمكانية الوصول ينبغي أن تكون متاحة، وإلا لزم من ذلك العبث والجهل والظلم. تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم.
فلو كان في الإنسان حب للوصول إلى الكمال المطلق، لزم، بناءً على حكمة الله ورحمته المطلقة، هداية الإنسان إلى هذا الكمال. ولأن الإنسان لا يرضى بأي كمال طالما أن هناك كمالاً أعلى منه، فإن وصوله إلى الكمال المحدود ـ مهما كان ـ يعني عدم الوصول إلى شيء. ويبقى الإنسان محروماً ساخطاً متألماً. وهذا منافٍ للوعد الإلهي لأهل الجنة
فإن الجنة هي مقام الرضى والطمأنينة. ولهذا ورد في الحديث "أن الإنسان في الجنة يأتيه الخطاب: من الحي القيوم الذي لا يموت إلى الحي القيوم الذي لا يموت إني أقول للشيء كن فيكون، وقد جعلتك تقول للشيء كن فيكون".
الجنة هي مقام الإنسان الكامل، وهي ظهور الكمال المطلق الذي يحبه ويسلك نحوه كل إنسان شريف. ويعتبر هذا المقام من أهم ميزات دين الإسلام، والذي يميزه عن كل الأديان والمذاهب. ومهما فتشنا داخل المدارس الوضعية وغيرها لن نجد إشارة واحدة إلى هذا المبدأ العظيم.
فإذا كان الإسلام يتميز عن غيره بالبرنامج والوسائل، فإنه يتميز قبل أي شيء بالغاية التي يدعو الإنسان للوصول إليها. وهي الكمال المطلق اللامتناهي.
وعشرات الإشارات الأخرى التي تكفي لأهل البصيرة. وبالرغم من وضوح هذا المطلب وقيام البراهين المختلفة عليه، إلا أننا نجد من ينكره علانية ويضع إشكالات حوله تدل على قصر النظر وقلة التدبير. يقول الإمام في نفس الوصية مشيراً إلى هذه القضية:
والموضوع أعلاه، رغم موافقته للبرهان المتين والرؤية العرفانية والمعرفة، ورغم ما ورد في القرآن الكريم من إشارات إليه، إلا أن التصديق والإيمان به في غاية الصعوبة، ومنكروه في غاية الكثرة، والمؤمنون به قلة نادرة. وحتى أولئك الذين يعتقدون بثبوت هذه الحقيقة عن طريق البرهان لا يؤمن بها منهم إلا قلة قليلة. فالإيمان بأمثال هذه الحقائق لا يحرز إلا بالمجاهدة والتفكر والتلقين.
تفكر جيداً أيها القارئ العزيز، وابتعد عن العادات الباطلة واتهم علمك المحدود. ولا تفسر كلام الإمام المقدس بما تشتهي، بل اترك العقل يأخذك إلى الحقيقة التي هي وراء طور الخيال والقيل والقال. فهل يعقل أن يجعل الله مخلوقاته في عذاب أليم، ولا مخرج لهم منه دون أن يكون لهم ذنب فيه؟!.
إن حقيقة المخلدين في النار هي أنهم أعرضوا بعناء عن فيض الله وعطائه اللامحدود. ولو أنهم لم يعاندوا وأحسنوا الظن به لما لبثوا في العذاب الشديد. فلا تكن من الذين يتعصبون ويفكرون لمجرد أنهم لم يقدروا على تصور الحقيقة.
إن الكثير من الحقائق الوجودية مما يفوق تصوراتنا ويتعدى علومنا الحالية أو ما اعتدنا عليه من الأفكار. وإذا أصرينا على ما عندنا فلن ندرك ما ليس بأيدينا.
فهذا المطلب ـ وهو وصول الإنسان إلى الكمال المطلق ـ مبرهن عليه ومشار إليه في مئات النصوص. وهو الغاية القصوى لهذا الدين.
وقد جاء التعبير عنه بأشكال شتى، إلا أن حسنه واحد. يقول الإمام (قدس سره):
".. كمال أن الكمال المطلق محال أن يتكرر أو أن يكون اثنين، فالكمال المطلق هو الحق جل وعلا والجميع يبحثون عنه وإليه تهفو قلوبهم وإن كانوا لا يعلمون".
ولأجل الإحاطة العلمية بالقضية والوصول إلى الثمرة المرجوة من كلام الإمام نفصل المطلب على الشكل التالي:
أولاً: ثبوت وجود عشق الكمال المطلق في الإنسان.
ثانياً: إمكانية الوصول إليه.
ثالثاً: وجوب السعي إليه.
رابعاً: كيفية الوصول إليه.
خامساً: تفسير حركات البشر وفقه.
وهذا ما يشير إليه الإمام في تتمة الوصية.