أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق مع الإمام الخامنئي | انتظار الفرج(*) الافتتاحية | ستبقى فخرنا وعزّنا مع الإمام الخامنئي | لا تنبهروا بقوّة العدوّ* نور روح الله | لو اجتمع المسلمون في وجه الصهاينة* كيف تكون البيعة للإمام عند ظهـوره؟*

تسابيح جراح: رحلة مواساة


لقاء مع الجريح المجاهد حمّود علي رباح (ساجد)
حنان الموسويّ

 

لحظات فقط كانت كفيلةً بأن تلمع نجوم النهار في رأسي، وأفقد توازني كأنّ فيَّ كلّ دوران الأرض. تعثّرتُ بظلّي، ما دفعني إلى البحث عن كتفٍ أستند إليها، أو أيّ شيء أتمسّك به. ذاك الدوار تلاشى حين أمسك بي صديقي وأجلسني أرضاً، ثمّ أخبرني أنّ خدشاً بسيطاً طال جبيني، نزفه سرعان ما يتوقّف. مسحتُ عينيّ قليلاً لأزيل الغشاوة عنهما وتتّضح الرؤية. وما إن أحنيتُ رأسي، تحسّستُ جلد العتم، وانهمرت عيني اليسرى متناثرة!


قذيفة الهاون من عيار 120 ملم التي استهدفنا بها التكفيريّون، انفجرت قربي، فرفعني ضغط موجتها الانفجاريّة في الهواء، ثمّ طرحني أرضاً بعنف، فارتطم رأسي بقوّة، وتأرجحتُ بين الوعي واللاوعي، واخترقت شظايا قاعدتها عيني وولجت في عمق الرأس، ما زاد من سوء حالتي. حينها، حملني صديقي محمّد باقر ليوصلني إلى الإسعاف، لكن سرعان ما عاجله القنّاص بطلقة أصابت خاصرته، طرحتنا نحن الاثنين على التراب، حيث غفت السماء على جفوننا، وسالت الدماء.

•منشأ الحبّ
نشأتي كانت في بيئةٍ يتغلغل فيها حبّ المقاومة، ضمن ما يُعرف بالمربّع الأمنيّ. لا أذكر أنّ مناسبةً فاتتني دون أن أرتاد الحسينيّة الكائنة أسفل بيتنا بطبقات فقط، أو أنّ نشاطاً أقامه حزب الله لم أشارك فيه. الأهل جميعاً يعشقون المقاومة حتّى النخاع، وما انضمامي إلى صفوف المجاهدين سوى انعكاس لتأثّري بإخوتي والمحيط، ولشهادة صديق عمري "علي رضا إسماعيل"، الذي فقدتُ فيه وجوداً كان يؤنسني، ما دفعني إلى تقديم طلب الانتساب، وانخرطت سريعاً، بعد أن خضعتُ لدورات تدريبيّة عدّة.

شاركتُ في العديد من المعارك في القصير والزبداني. لكن لاحقاً، تمّ تشكيلي إلى حلب، حيث الدمار والخراب، فتقع عيناك على الموت والخطر، ولكنّ المجاهدين ترصّدوا للرعب، فكانوا أسياده على الرغم من قلّتهم. مساحة المدينة المهولة وحشود الدواعش شكّلت ضغطاً على المقاومين، فحوصر أفرادٌ وأُسر آخرون، وكنّا العائدين إلى الحياة حين الانتصار.

•انتصار وجرح
ذاع صيت تلّة "أمّ القرع" لكثرة ما ارتفع لنا شهداء فيها، لذا كان الهدف إسقاطها، خصوصاً بعد أن احتجز الدواعش جثمان شهيد كرهينة. 

مشينا ومشت معنا ناعيات المنايا. قمنا بالهجوم، وبالكثير من العزيمة والتوكّل، سقطت التلّة في أيدينا، ووقع كثيرٌ من الأعداء قتلى. كان الانتصار مدوّياً، لدرجة أنّني حصلتُ ورفاقي على شهادة تقدير. فرّت القلوب من إيقاع نغماتها، وتمايل الورد من فرط الفرح. 

ما لبثنا أن أقمنا احتفالاً في الباحة حين ثبّتنا قاعدتنا، حتّى رمى التكفيريّون قذيفة على المجاهدين الذين تسلّموا نوبات الحراسة هناك، فتعانق الدم والنار في عروق المقاومين غضباً وحزناً على الشهداء. كنّا في خضمّ الهجوم حين ناداني مسؤول المجموعة. هممتُ بالتقدّم للوصول إلى المبنى المطلوب. خطوتُ خطواتٍ خلف الساتر، إلّا أنّي طفتُ فجأةً في مدار الله؛ نزلت القذيفة بالقرب منّي، ومن هول ضغطها، اتّسعت روحي فحلّقت. دخلت شظيّة من قاعدة الهاون في عيني واخترقت رأسي، وفقدت اتّزاني.

•رحلة الهوى
منعت ضراوة المعارك المسعفين من سحبي أنا وصديقي مباشرة. مرّ بعض الوقت حتّى نُقِلنا إلى مستشفى حلب. ونظراً إلى سوء وضعي، وتنامي الورم في رأسي، رفض الطاقم الطبّيّ إخضاعي لجراحة كي لا أُصاب بالشلل، فاقتضت الضرورة أن أعود بالطائرة في اليوم عينه إلى لبنان. 

تهامس العطر في عيني صلاة هوى تؤدّيها الجوارح بين السماء والأرض، إلى أن وصلتُ إلى مشفى الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، حيث خضعتُ لعمليّة جراحيّة، استمرّت اثنتي عشرة ساعة، انتزع الطبيب خلالها تلك الشظيّة، ومكثتُ في إحدى المشافي عشرة أيّامٍ. بعدها، سبّب ضغطُ الجرح وآثاره لي آلاماً مبرحة، ما اضطرّني إلى الخضوع لجراحة تُستأصل فيها عيني ويُفرغ كلّ ما يتعلّق بها داخل الرأس. ولأنّ جرعة المخدّر زادت عن الحدّ، فقد أدّت إلى تسارع دقّات القلب، ممّا سبّب لي نزيفاً، وكادت هذه العمليّة أن تودي بحياتي.

•خُمس الأجساد
الضغط الحادّ في رأسي راكم درجات ضعف النظر في عيني اليمنى. ونتيجة لذلك، رافقني غشاء يمنعني من الرؤية بوضوح، وما زلت حتّى الآن أتلقّى العلاج للتخلّص منه. كما أنّ ارتطام رأسي أرضاً حين أصبتُ سبّب لي جلطات كهربائيّة، تخلق لي نوباتٍ عند الشعور بالحزن أو الفرح، تنسيني الحوادث الآنيّة وتفقدني الوعي، مضافاً إلى حالة من الرجفة، فأصير غريباً على ساحة ذاكرتي لبعض الوقت، بعدها يعود إليَّ التركيز تدريجيّاً.

في عقيدة والديّ أن لكلّ إنسان خُمْساً وزكاة، وقد كانا بانتظار تقديم ولدٍ من أولادهما قرباناً لله؛ لذا عند إصابتي لم يهلعا. وعلى الرغم من أنّ تورّم وجهي ورأسي أوحيا للجميع بأنّ وضعي خطير، إلّا أنّهما استبشرا خيراً أنّ ذاك الدم الذي سال، قد وقع بيد الله. لذا، قامت والدتي بتوزيع الحلوى على الناس في المنطقة عند استقبالي. وكان أبي من المشجّعين الأوائل لي، خصوصاً عند وقوع أيّ حدثٍ يخصّ المقاومة قبل الإصابة وبعدها. ولشدّة فخرهما بجرحي، جعلا من ذكرى إصابتي يوم احتفالٍ يحييناه كلّ عام.

•حلاوة الجراح
حياتي الحلوة عشتها بعد الإصابة. الفخر والتميّز والإبداع من فيوضات ذاك الوسام الربّانيّ. إصابتي لا تحدُّ من قدرتي على العطاء، فطموحي أن أشارك في الجهاد مجدّداً وأن أُصاب أيضاً، وبعدها أتمنّى أن أنال الشهادة، فلذّة الإصابة ليس كمثلها لذّة.

أعتزّ بزيارة الشهيد قاسم سليماني لي بعد إصابتي في منزلي. تواضعه أثّر فيّ كثيراً، فمن مثله واجبٌ عليه التخفّي والاستتار لضرورة الحفاظ على نفسه كقائد لفيلق القدس، بينما هو من يحمل روح عليّ عليه السلام لا يعرف سوى التجوال في الخطّ الأوّل وعند حدّ الحتوف. لذا، حملتُ قلبي على ظهري أسير به، وعدتُ إلى ساحة الجهاد مدّة ستّة أشهر بعد الإصابة، التقطتُ خلالها جرثومة تسبّبت في ورم خطير في عيني، خضعتُ بسببها لعلاج طويلٍ لم يسمح لي بالعودة إلى ثغور الجهاد من بعدها، حيث جنّة المأوى لقلبي، كلّما آنستُ شوقاً لها، أنقذني الحنين وسالت دمعتي.

•القدوة الحسنة
اسم الإمام الحسين عليه السلام كفيل بأن تسيل دموعي ناراً لا ماء لدى ذكره. على ضفاف جراحي وأحزاني، كنتُ أقفُ في كلّ مرّة طالباً منه أن أشعر بجراحه أكثر، ومن ثمّ الشهادة، فتذوّق حلاوة الجرح مجدّداً قبل الشهادة هو المرام. وأمّا إعجاز توقّف نزيف عيني عند زيارتي الأولى للغريب عليه السلام بعد الإصابة مباشرة، فقد أذهل طبيبي. وعند عودتي، وضعتُ عيناً زجاجيّةً عادة ما تكون عائقاً في ذرف الدّمع، ولكن بفضل الله، مجرى الدمع ما زال حيّاً، وما زالت نعمة البكاء على الإمام الحسين عليه السلام تباركني.

أدعو الله أن أكون من أنصار صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف، وأسأله تعالى أن يعجّل في ظهوره؛ فالحقّ والباطل في تناحر، والظلم عمّ الكون.

•أمنيةٌ ملحّة
أمنيّتي أن أرى السيّد حسن نصر الله (حفظه الله)، وكلّي أملٌ أن يسمح لي بذلك، فرسائلي قبلاً لم توفّقني لتحقيق تلك الأمنيّة بعد. أقول له: وجهك يا سيّدي انساب في كلّ الجهات رؤى وأماناً، ولأجل عينيك كلّنا قربان؛ الأهل والزوج والولد وكلّ قريب وبعيد.

•رسالة وامتنان
للقيّمين على مؤسّسة الجرحى: منّ الله عليكم باستقبال الجرحى لخدمتهم، هذا الجهاد من أسمى الجهاد؛ لأنّه ليس حكراً على حمل السلاح. فأن يأتي الشابّ من منزله، كي يستمع لوجع جريح ويتابع شؤونه، ويحتضنه، فمقامه عند الله عظيم. اسم تلك المؤسّسة يكفي للدلالة على قدسيّتها، التي تُعنى بكلّ ما يتعلّق بالجرحى وعوائلهم.

أقول للجرحى: تنعّموا بحلاوة جراحكم، فإنّ مهرها الجنّة.
أمّا رسالتي لعامّة الناس فمختلفة: ربّوا أبناءكم على هذا النهج، فهو سبيل الانتصارات التي لا حدّ لها، فالله وعدنا بالرفعة، وسيكون حزب الله قدوة العالمين، فطوبى لمن كان من جنود حزب الله، فهم من يخلقون في جدار الموت صوت النبض.

الجريح: حمّود علي رباح.
الاسم الجهادي: ساجد.
تاريخ الولادة: 10/4/1993م.
مكان الإصابة وتاريخها: حلب 14/8/2016م.
نوع الإصابة: فقدان العين اليسرى.

 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع