عظُم الخالق في أنفسهم فصغُر ما دونه في أعينهم
من الواضح جداً أن عظمة الخالق مع عظمة المخلوق تكون من الأضداد التي لا تجتمع أبداً. فإذا استقرت عظمة الخالق في قلوبهم واطمأنوا بها فلا يبقى مجال لاستقرار عظمة المخلوق أبداً ولهذا يصغر ما دون الخالق في أعينهم.
قال بن ميثم "قدس سره": وذلك بحسب الجواذب الإلهية إلى الاستغراق في معرفته ومحبته، وبحسب تفاوت ذك الاستغراق يكون تفاوت تصوّر العظمة وبحسب تصوّر عظمته تعالى يكون تصوّرهم لأصغرية ما دونه ونسبته إليه في أعين بصائرهم [شرح نهج البلاغة لابن ميثم ج3، ص415].
فمن عظم الخالف عنده لا يحب الدنيا وما فيها ولا يقع في المعصية، إذ حب الدنيا رأس كل خطيئة [الكافي: ج2، ص131، ح11]. كما ورد في الحديث، وينجو من إطاعة الطواغيت والظلمة وهكذا، بل ينظر إلى رحمة ربه ويعمل بما يرضيه.
ثم إن عظمته تعالى تكون من جهات عديدة لا يمكن إحصاؤها أبداً، ألا ترى بأنه أوجد الخلق بعظمته بعدما كان معدوماً وتعامل مع خلقه بعظمته حيث كافأهم بالحسنة عشرة أضعاف وبالسيئة مثلها كما قال الله تعالى: ﴿مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾ [الأنعام: 160]. ويقبل التوبة من عباده كما قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ [الشورى: 25]، ولا يحجب عن عباده بل هو أقرب إليهم من حبل الوريد كقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ [ق: 16]، ويدعوهم إلى الابتهال والتضرّع والدعاء إليه كما وعدهم الاستجابة لهم كما قال تعالى: ﴿هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [غافر: 65]، ويدعونه في كل مكان وزمان من دون حاجة إلى الوسائط، ولا يشغله شيء عن شيء وجعل لهم مساجد يذكر فيها اسم الله يدخلونها من دون حاجة إلى الإذن والمقدمات كقوله تعالى: ﴿قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ﴾ [الأعراف: 29]. وله الأمر والحكم في الدنيا والآخرة كقوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ (الأعراف: 54]، وكقوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور﴾ِ [آل عمران: 154]، يحيي ويميت وهو حيٌ لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير كقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير﴾ٌ [آل عمران: 156]. ويرزق ولا يُرزق ويطعم ولا يُطعم ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيراً، كقوله تعالى: ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَين﴾َ [الأنعام: 14]، وليس له مماثل يعادله كقوله تعالى: ﴿وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَد﴾ٌَ [الإخلاص: 4]، بل هو أحد فرد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد.
وقال سيد السجادين وزين العابدين (عليه السلام) في صحيفته زيا من لا تنقضي عجائب عظمته صل على محمد وآله واحجبنا عن الإلحاد في عظمتك، ويا من لا تنتهي مدة ملكه صلِّ على محمد وآله». [الصحيفة السجادية، الدعاء الخامس].