رامي بليبل
لا شك في أن الإسلام قد جاء مؤيداً للكثير مما جاءت به الأديان السماوية السابقة له في مناسكها وحدودها وشرائعها، مع تعديل يلائم نضوج المجتمع البشري الذي بدأ يتحول من عصور البدائية العنيفة إلى عهد جديد تخللته حضارات ومدنيات كثيرة، و(عهد بدايته "اقرأ" وجوهره الأخلاق ونهايته التكامل.
وبذلك كانت البداية انفتاحاً للبحث والتعلم والدراسة والتأمل حينما خاطبت السماء العقول والأفهام، واتجهت نحو الغرائز تهذبها وتكبح جماحها، ثم تعمقت في أحاسيس الإنسان وفي مشاعره فلم تطلق لها العنان على آخره، بل طالب بالتوسط في كل شيء... وجعلت لكل عاطفة حداً. فالبكاء والضحك بميزان والحزن والسرور بميزان، واليأس والأمل بميزان، حتى الطعام والشراب والمتاع الحسي كلها بميزان.
ولما كانت الفنون في مجموعها تخاطب الأحاسيس والمشاعر والعاطفة فقد تدخل الإسلام العظيم لكي يقف بهذه الفنون عند حدود ما جاءت به الشريعة من دون أن يتعارض مع قوانينها وأهدافها لخير الإنسان.
فقد أتت قوانين الإسلام وسطاً في كل شيء. فلم تغفل طبيعة البشر، ولم تكبت الغرائز والميول، ولم تهمل ما تشتهيه الأنفس... ووضعت عن الناس الكثير من القيود والأغلال، فأباحت الطيبات وحرّمت الخبائث من غير تزمت ولا جمود ولا تقتير ولا إسراف.
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾
﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُون﴾َ
﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِين﴾َ
صدق الله العلي العظيم
فمن هذا الاستعراض السريع العابر لبعض آيات الله تعالى نرى أن الإسلام لم يحرم شيئاً إلا لمضرة فيه تفسد علينا جمال الحياة ونعيمها عاجلاً أو آجلاً، كما إنه منع المغالاة والاستغراق المطلق في أي شيء.
فلو تتبعنا الموسيقى من حيث فلسفتها وتاريخها وآدابها وطبيعتها لرأينا أنها كانت دراسة جادة لدى الكثير من فلاسفة الإسلام وعلمائهم وأجمعت الدراسات النفسية في مختلف العصور على أن الموسيقى والإنشاد، مما يرقق القلب ويحرك الوجدان، ويبعث البسمة، فيحدد ذلك من أثقال الحياة، أو يبعث الدمعة، فيرقُّ القلب، ويستعد لاستقبال المواجيد والتأثر الباكي في الخشية مع الله.
وما أشدَّ وقع الآية الكريمة على قسام القلوب في قوله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [صدق الله العلي العظيم].
ونرى أن الموسيقى منذ بداية عصر الإسلام كانت أداة للإعلام ومبشرة بقدوم رسول الله إلى المدينة حيث خرج الأنصار بأطفالهم ورجالهم وشبابهم ونسائهم ينشدون:
من ثنيات الوداع
طلع البدر علينا
ما دعا لله داع
وجب الشكر علينا
جئت بالأمر المطاع
أيها المبعوث فينا
مرحبا يا خير داع
جئت شرفت المدينة
وبمثل ذلك سجل الشعر أيضاً دولته في دنيا الإعلام عن الإسلام ومبادئه محققاً في ذلك قول الشاعر:
بغاة العلا من أين تؤتى المكارم
ولولا خلال سنها الشعر ما درى
وإننا الآن في عصر الإعلام الإذاعي نتخذ من الموسيقى مبدأ ومتكأ لكل مادة. ولك برنامج، ولا أعتقد أن العصر الحاضر في وسعه أن يهمل الموسيقى رسالة وثقافة وفناً له خطره في كل مجتمع، ولهذا فإن الأمر ليس مجرد النظرة في تحليل الموسيقى أو تحريمها وإنما في توجيه هذا الفن لخدمة البشرية في التربية والثقافة وتزويد الوجدان والمشاعر والأخلاق بكل ما يرفع من شأن الإنسان فيختفي اللحن الماجن والنغم المعربد والكلمة الخارجة عن محيط أذان الشريعة، فيستقي الناس فناً نظيفاً خالياً من شوائب الإضرار بالنفس والروح وموجهاً لإعلاء كلمة لا إله إلا الله، محمد رسول الله، علي ولي الله على راية بيضاء يرفعها بقية الله المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف.