آية اللّه الشيخ حسين مظاهريّ
إنّ لتشكيل الأسرة فوائد كثيرةً جدّاً، وأوّلها إرضاء الفطرة، وهي فائدة مهمّة جدّاً؛ لأنّ الرجل والمرأة ينجذبان أحدهما إلى الآخر، فيكون الأولاد هم حاصل هذا التجاذب، وهذا أمر طبيعيّ.
كمن أحيا الناس
إنّ أوّل من أحيا هذه الفطرة هو نبيّ اللّه آدم أبو البشر وزوجه حواء عليهما السلام، لتبقى هذه الفطرة إلى يومنا هذا. ولو تمكّنت إحدى الأُسر من تقديم نسل صالح للمجتمع، ستحظى حتماً بالأجر والثواب. وهذا هو نظر الإسلام العظيم. وقد لا يكون هناك أجر ولا ثواب في الإسلام أسمى من هذا؛ لذا تكون الآية المباركة الآتية دليلاً على قيمة الإنسان الرفيعة: ﴿مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾ (المائدة: 32).
لقد ذيّل الإمام الصادق جعفر بن محمّد عليه السلام هذه الآية بمعنى باطنيّ ودقيق وهو: إذا تمكّن فرد من حرف آخر عن جادّة الصواب، أو أخرجه من الطريق المستقيم، كان وزره كالذي قتل الناس جميعاً، ومن هدى شخصاً إلى سواء السبيل بعد أن كان منحرفاً، فكأنّما أحيا الناس جميعاً.
وبناءً على ما تقدّم، يكون تفسير الإمام الصادق عليه السلام الخالص لتلك الآية هو: إذا استطاع زوجان تقديم جيل صالح إلى المجتمع، فسوف يكون ثوابهما أكثر من ثواب ذلك الذي يبني مسجداً، أو مدرسة، وسيكون ثوابهما كثواب الذي أحيا الناس جميعاً.
وعليه، يكون تقديم الأبناء الصالحين إلى المجتمع الإسلاميّ أكثر ثواباً من بقيّة الأعمال الصالحة، ولكن متى يمكن تقديم الأبناء؟ يمكن ذلك بعد تشكيل الأسرة.
شركاء الأعمال الصالحة
نقرأ في الروايات المتواترة، أنّ النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة الأطهار عليهم السلام كانوا قد تطرّقوا كثيراً إلى أنّ الذي يموت ينقطع عمله، إلّا من كان لديه أعمال باقيات صالحات ممتدّات إلى الحياة الأخرى، وأحد مصاديق هذه الباقيات الصالحات الأولاد الصالحون(1).
فمَن ترك وراءه ابنة صالحة، أو ابناً صالحاً، فهو شريك معهما في الثواب الذي يمكن أن يحصلا عليه من خلال قيامهما بالأعمال الخيّرة، ومثله كمثل الذي يسنّ سنّةً حسنة، فيحصل على أجرها، وعلى مثل أجر مَن يعمل بها إلى يوم القيامة.
إذاً، سيكون الوالد حاصلاً على مثل ثواب ما يحصل عليه أبناؤه الخيّرون حتّى بعد مماته.
ذكر الشيخ الصدوق عن الإمام الباقر محمّد بن عليّ Lفي "ثواب الأعمال" أنّه قال: "أيّما عبدٍ من عباد اللّه سنَّ سُنّةَ هدىً، كان له أجر مثل أجر من عمل بذلك، من غير أن ينقص من أجورهم شيء"(2).
إنّ الباري تبارك وتعالى كافأ الإنسان الذي قدّم أفراداً (أبناء) صالحين للمجتمع بثواب جزيل، مضافاً إلى الثواب الذي يحصل عليه من خلال تقديم الأبناء للأعمال الخيّرة، فإذا صلّى الولد ركعتَين حصل على ثوابهما، وحصل الوالد على مثل ذلك أيضاً، وحصلت والدته على مثل ذلك الأجر.
مذاهب أعداء البشريّة
لقد قرأت الكثير من الروايات التي تتعرّض لهذه المسألة المهمّة، والتي تدور حول ثواب ذلك الشخص الذي يتمكّن من تشكيل أسرة متديّنة خيّرة، ويقدّم إلى المجتمع أفراداً متديّنين خيّرين، ومن فعل ذلك إنّما يكون فعله ذاك مطابقاً للفطرة السليمة التي فطره اللّه عليها، على العكس من ذلك الذي يسعى جاهداً لأن يهلك الحرث والنسل، والذي لا يمكن أن يحسب إلّا عدوّاً للبشريّة.
1- سلب النسل الخيّر: إنّ عدوّ البشريّة هذا صمّم، ومنذ اليوم الأوّل، على سلب النسل الخيّر من المجتمع، إلى الحدّ الذي شكّل معه المذاهب -بدون حياء- من أجل تفتيت حالة تشكيل الأسرة.
فبعض الناس يتحدّث بشكلٍ يتمكّن معه من جذب عامّة الناس إليه، بعد أن يدرس وضعيّة أولئك الذين يريد أن يتحدّث إليهم، فتراه يتلطّف للعوامّ بعد تحديد نقاط ضعفهم التي يؤخذون منها، فيطرح مذهبه من مثل ماركس، دوركهيم، نيتشه، وفرويد، هذا مضافاً إلى كتابة أطروحات تعتبر بمثابة نظام داخليّ لذلك المذهب: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ﴾ (البقرة: 204).
لقد استغلّ الكثير من المستعمرين هذه المذاهب لتمرير مخطّطاتهم الجهنّميّة على عامّة الناس، على الرغم من أنّهم يدركون جيّداً أنّ تلك المذاهب مبتذلة، ووضعيّة، ولا خير فيها، ولكنّهم تمكّنوا -إلى حدٍّ ما- من توظيفها لخدمتهم كي لا يتعلّم البشر أصول الإنسانيّة، وأصول الإسلام.
إنّ دعم المستغلّين الغربيّين لهذه المذاهب ليس لأجل سواد عيون "ماركس" أو "دوركهيم"، وإنّما بغضاً للإسلام، وحقداً على البشريّة ﴿وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ﴾.
2- السعي إلى الإفساد: أمّا بالنسبة إلى الصفة الثانية التي تعرّض لها القرآن المجيد في سورة البقرة فهي: إنّ هؤلاء الأعداء -أعداء البشريّة- يسعون للإفساد دائماً حينما يكونون مقتدرين، أو متولّين زمام الأمور: ﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ﴾ (البقرة: 205).
إنّ الآية الشريفة تحمل في طيّاتها مصداقين، الأوّل: أنّ بعض الناس يحاول جهد الإمكان، بعد تولّيه لمقاليد الأمور أو السلطة أن يفسد، أو يحرف الناس عن جادّة الصواب، والمصداق الثاني: هو محاولة هذا الشخص إهلاك الحرث والنسل.
إنّ المتسلّطين على مقدّرات الناس، هم أعداء البشريّة، وهم الذين يتحيّنون الفرص لحرف الناس عن المسيرة الطبيعيّة للبشر، فتراهم يشجّعون دائماً على التبرّج وترك الحجاب، وإفساد النساء والرجال، من خلال تسهيل عمليّات الاختلاط، حتّى بلغ النساء في زماننا الحاضر وضعاً لا يُحسدن عليه، ذلك كلّه ينفّذه أعداء البشريّة تحت شعار التمدّن والحضارة والثقافة وما إلى ذلك من المسمّيات التي لا تمتّ بصلةٍ إلى ما يفعلون.
إفساد الأدمغة
إنّ إفساد النسل يعني إفساد الأدمغة، إفساد الأفكار، وإفساد المستقبل، لذا ترى أعداء البشريّة يركّزون أعمالهم في المدارس الابتدائيّة والثانويّة، وفي الجامعات، لكي يتمكّنوا من صرف أولئك الشباب عن المنبر والمحراب، وحتّى إذا لم يكن للأعداء نصيب في هذا الجيل، فإنّهم يخطّطون لجرّ الجيل القادم إلى حيث الفساد والدعة.
إنّ مذهب "دوركهيم" يقول وبدون أدنى حياء: ماذا يعني تشكيل الأسرة؟ وإنّ الفيلسوف الإنجليزيّ "راسل"، قال في آخر أيّام عمره وحينما كان على فراش الموت: إن تشكيل الأسرة خطأٌ محضٌ! وكذا كان فرعون: ﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ (القصص: 4).
إنّ المفسرين إجمالاً يقولون إنّ فرعون كان يذبّح أبناءهم بعد أن اطمأنّ بمجيء الذي سيذهب بعرشه، ولكنّ بعض المحقّقين قالوا: إنّ أحد أعمال فرعون كانت تكمن في تخريب وتدمير النسل والحرث القادم، وإفساد النساء بعد تجريدهنّ من الحياء بطرق مختلفة خبيثة.
مواجهة المشروع الغربيّ
وعليه، يجب علينا ترتيب الوضع البيتيّ وتشكيل الأسرة حتّى نتمكّن من تقديم نسل خيّر صالح ومفيد للمجتمع البشريّ، وهذا بحدّ ذاته يعتبر ضربة لتلك الأفواه الفاغرة الغربيّة منها والشرقيّة، والوحشيّة والتافهة، الصهيونيّة وغير الصهيونيّة.
(*) من كتاب الأخلاق البيتيّة، الفصل الرابع – بتصرّف.
1-راجع: المحجّة البيضاء، الكاشاني، ج3، ص61.
2-ثواب الأعمال، الصدوق، ص132.