الشيخ أبو صالح عبّاس
"كلام موجّه إلى إخوتي وأخواتي المجاهدين:
إخوتي وأخواتي المجاهدون في هذا العالم، يا من أعرتم الله جماجمكم، وحملتم الأرواح على الأكفّ، ووفدتم إلى سوق العشق بائعين، انتبهوا: إنّ الجمهوريّة الإسلاميّة هي قطب الإسلام والتشيّع، مقرّ الحسين بن عليّ عليهما السلام هو إيران".
•نظرة عالميّة وحدويّة
في هذا المقطع من الوصيّة، يتوجّه القائد الشهيد بلسان صريح إلى عموم المجاهدين في العالم، ويخاطبهم بلغة عالميّة وحدويّة، تنطلق من العقل المنفتح الذي يمتاز به، ومن معين الروح الإنسانيّة التي يحملها، والتي لا تختزل صراع الحقّ مع الباطل في إطار قوميّ، أو مذهبيّ، أو حتّى دينيّ ضيّق، بل تقارب قضايا المظلومين في العالم من منطلق إيمانيّ يتّسع لكلّ معاني الإنسانيّة التي تنتصر لقضايا المستضعفين في العالم دون تمييز بين عربيّ وأعجميّ، أو أسود وأبيض، أو مسلم وغيره. وهذه النظرة العالميّة الوحدويّة تعبّر عن أصالة الروح القرآنيّة التي كان يعيشها القائد الشهيد على هدي قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ (الأنبياء: 107)، وقوله تعالى: ﴿الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ (إبراهيم: 1).
•"أعر الله جمجمتك"
بالأصالة القرآنيّة التي تدعو إلى توحيد الكلمة، وتدعو أبناء الدين الواحد إلى الأخوَّة والاعتصام بحبل الله سبحانه، أخذ القائد الشهيد يخاطب إخوانه وأخواته المجاهدين في العالم، مقتبساً من كلمات أمير المؤمنين عليّ عليه السلام حينما أوصى ولده محمّد ابن الحنفيّة قائلاً: "تَزُولُ الجِبَالُ وَلاَ تَزُلْ! عَضَّ عَلَى نَاجِذِكَ، أَعِرِ اللهَ جُمجُمَتَكَ، تِدْ في الأرْضِ قَدَمَكَ، ارْمِ بِبَصَرِكَ أَقْصَى القَوْمِ، وَغُضَّ بَصَرَكَ، وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مِنْ عِنْدِ اللهِ سُبْحَانَهُ"(1). وهي كلمات تحمل وصايا البأس الحيدريّ لكلّ مجاهد ومنافح عن الحقّ في سبيل الله، وذلك ليشير إلى أغلى دوافع الجهاد وعناصر القوّة فيه، وهي تسليم الأمر لله، والتوكّل عليه، والإخلاص له، وهي عناصر تختزنها عبارة "يا من أعرتم الله جماجمكم".
ثمّ يشير الحاجّ قاسم بعد ذلك إلى صفة التضحية، والتجارة التي يحترفها المجاهدون في سوق العشق، وهو قوله: "وحملتم الأرواح على الأكفّ، ووفدتم إلى سوق العشق بائعين"؛ وكأنّه يرتّل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ*تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ (الصف: 10-11)، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ (التوبة: 111).
•قطب الإسلام والتشيّع
لقد جعل الحاجّ قاسم مقدّمته هذه بمثابة قاعدة الانطلاق للنطق بالوصيّة الجهاديّة الخالدة:
"انتبهوا: إنّ الجمهوريّة الإسلاميّة هي قطب الإسلام والتشيّع؛ مقرّ الحسين بن عليّ عليهما السلام هو إيران".
وعبارة التشيّع هنا، لا تعني الانكماش على المنحى المذهبيّ لقضيّة إيران الإسلام، بدليل سياق الكلام الذي يلي هذه العبارة، وأيضاً بقرينة الشواهد الكثيرة التي تختصرها سيرة القائد الشهيد، والتي لم تفرّق بين مسلم وآخر، وهو الذي حضر في غزّة كما حضر في لبنان، وحضر في اليمن كما حضر في العراق، ونصر قضايا المستضعفين في أفغانستان وباكستان، وفي كلّ مكان دون تمييز، وهذا موثّق بالصوت والصورة كذلك(2). من هنا، فإنّ توصيفه للجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة بـ(قطب الإسلام) معطوفاً عليه التشيّع، هو من باب إظهار الهويّة الإيمانيّة التي تنتمي إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وعترته عليهم السلام، وهي مدعاة إلى التفاف المسلمين حولها، إذ لا اختلاف بينهم على عظمة أهل بيت النبيّ عليهم السلام، وعظمة الإمام عليّ عليه السلام الذي ينتمي إليه الشيعة عقيدةً ومنهاجاً. وبهذه الخلفيّة أيضاً، وصف إيران بمقرّ الحسين بن عليّ عليهما السلام، وذلك لإلفات المخاطبين إلى خطورة وعظمة ما تمثّله إيران الإسلام في واقعنا المعاصر من موقع متقدّم على مستوى الأصالة والمحافظة على الإسلام، ومواجهة المنهج اليزيديّ في إطاره الاستكباريّ العامّ، وهو ما أخذ يتحدّث عنه بإسهاب في تتمّة الكلام.
•إيران حرم الأحرام
"فلتعلموا أنّ الجمهوريّة الإسلاميّة هي الحرم، وبقاء سائر الأحرام رهن ببقاء هذا الحرم؛ إذا قضى العدوّ على هذا الحرم فلن يبقى هنالك من حرم، لا الحرم الإبراهيميّ، ولا الحرم المحمّديّ".
الحرم لغةً من المنع والتشديد(3)، واصطلاحاً استخدم في المكان المقدّس الممتنع الذي لا يحلّ انتهاكه وتدنيسه، ومنه قوله تعالى: ﴿شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ (البقرة: 144)، وقوله: ﴿جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾ (المائدة: 97). من هنا، فإنّ توصيف إيران الإسلام بالحرم، يدلّ على قداستها، وعلوّ مقامها، وخطورة انتهاكها، فإيران اليوم تجسّد الاقتدار الإسلاميّ، وتقدّم نموذجاً عمليّاً لحاكميّة الإسلام، ولقيادة الوليّ الفقيه، وهي ترفع كذلك راية العدل، وتنشر القيم السامية، وتكافح في مواجهة الطغاة، وتنصر قضايا المستضعفين في العالم، وخصوصاً قضيّة القدس وفلسطين.
ولأجل ذلك، فإنّ بقاء سائر الأحرام الأخرى مرهون ببقاء إيران، فإذا سقطت إيران، سيسقط معها مركز الإسلام المحمّديّ الأصيل، وستفقد فلسطين ناصرها، وسيخسر مستضعفو العالم المنافح عنهم والداعم لهم، وسيسود التطبيع، ويُعمَّم ما يسمّى بالإسلام المعتدل وَفق المنظور الأميركيّ، وهو الإسلام المتأمرك، كما كان يسمّيه الإمام الخمينيّ قدس سره (4)، ليستفرد بعد ذلك بشعوب المنطقة، وهذا ما لا يمكن أن يكون، وفق ما وعد به الله من وراثة الأرض(5)، وإظهار دينه على الدين كله ولو كره المشركون(6).
1.نهج البلاغة، ص11.
2.راجع: تصريح على اليوتيوب لممثّل حركة حماس في لبنان أحمد عبد الهادي، يتحدّث فيه عن دور الشهيدين القائد الحاج قاسم سليمانيّ والقائد عماد مغنيّة في حفر الأنفاق في غزّة، ثمّ يصرّح بذهاب الشهيد سليمانيّ إلى غزّة أكثر من مرّة.
3.المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهانيّ، ص114.
4.راجع: موقع الميادين الإلكترونيّ: الإسلام الأميركيّ لعبد العزيز بدر القطّان، 12 تشرين الأوّل 2017م.
5.﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ (الأنبياء: 105).
6.﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ*هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ (التوبة، الآيتان 32 - 33).