نبارك لجميع المسلمين مولد سيد الخلق أجمعين (17 ربيع الآخر)
يقول الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ﴾ (آل عمران: 81). استناداً إلى هذه الآية المباركة، أخذ الله تعالى عهداً من الأنبياء طوال التاريخ بأنّه سوف يبعث رسول الإسلام وعليهم الإيمان به ونُصرته. الإيمان واضح. أمّا النصرة، فهي أن يعرّفوا شعوبهم وأتباعهم بالنبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم ويطلبوا منهم أن يؤمنوا به. هذا هو الحدّ الأدنى من نصرة الأنبياء. والله أخذ منهم هذا العهد.
*"... مأخوذاً عن النبيّين ميثاقه"
يُلاحظ في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (الأعراف: 157)، أنّ خصائص نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم كانت موجودة في التوراة والإنجيل غير المحرّفَين، وكذلك في قوله تعالى على لسان النبيّ عيسى عليه السلام: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾ (الصف: 6)، فالنبي عيسى بيّن اسم ذلك الرسول العظيم. ولذلك، فإنّ هذه الواقعة مهمّة لدرجةٍ أنّ الإمام عليّاً عليه السلام أشار إليها في نهج البلاغة على هذا النحو أيضاً، إذ قال: "إِلى أَن بَعَثَ اللهُ مُحَمَّداً رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم لإنجازِ عِدّتِه وَتَمامِ نُبُوَّتِه مَأخُوذاً على النبيّينَ مِيثاقُه"(1)؛ أي إنّ الله تعالى أخذ من الأنبياء عهداً وميثاقاً وأوصاهم بأن يتعاملوا معه على هذا الأساس.
إنّ إرسال النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم ذو مضمون عظيم، وهو مرتبط بوضعنا الحاليّ، وله تأثيرٌ من الناحية العمليّة، وليس مجرّد اعتقاد فحسب.
* رسالة تفيض بالحياة الطيّبة
إنّ دور الوحي والرسالة هو توضيح حقائق للبشريّة، وهذه الحقائق إذا ما آمنت بها المجتمعات البشريّة المتنوّعة وعملت على أساسها، ستحلّ عليها الحياة الطيّبة. ما معنى الحياة الطيّبة؟ إنّها الحياة الجميلة والمفيدة والمنشودة، الحياة الطاهرة، تتمثّل طهارتها بكونها مرغوبة وجميلة؛ لأنّها تساعد الإنسان في السير على صراط الكمال ونيل كلّ جمال وخير، سواء في الدنيا أو في الآخرة. إذا تعرَّفت القلوب بهذه المعارف والحقائق، وتعلّقت بها والتزمت بمتطلّباتها، فإنّ الحياة الطيّبة ستكون في انتظارها حتماً.
قسمٌ من هذه الحقائق هو منظومة الإسلام المعرفيّة، وهي تعبّر عن رأي الإسلام في الكون والإنسان، ودور الإنسان في العالم، والذات الإلهيّة المقدّسة، والصفات والأسماء الإلهيّة، ونحن نقرأ في دعاء كميل أنّها: "مَلأت أركانَ كُلِّ شَيء"، أو في دعاء شهر رجب: "بِهِم مَلأتَ سَماءكَ وَأرضَك"، حيث توجد حقائق بالغة الأهميّة عن مسيرة الإنسان في الحياة وبعد الممات وأمثالها. هذه الحقائق هي سلسلة ومنظومة الإسلام المعرفيّة؛ إذ إنّها تعلّم البشريّة وتنبّه الناس، فتجعلهم واعين يقظين.
* منظومة الإسلام القيميّة
إنّ القيم التي ثبّتها الإسلام، أو عرّفها بأنّها قيم؛ يجب على الأفراد والمجتمعات السير باتّجاهها؛ لأنّ سعادتهم فيها؛ من الأخلاق الفرديّة التي تدعو إلى الصبر والحلم والتسامح، وأمثالها وصولاً إلى المفاهيم العامّة والضروريّة لصناعة الحياة؛ كالحريّة والعدالة الاجتماعيّة، والكرامة الإنسانيّة، ونمط الحياة؛ هذه حلقات من السلسلة القيميّة الإسلاميّة والتي بيّنها الإسلام وشرحها لنا. يُشاع تصوّرٌ خاطئٌ عن هذه المفاهيم الرائجة كالعدالة الاجتماعيّة والحريّة وما إلى ذلك، أنّها قد أتت من الغرب إلى العالم الإسلاميّ، أو أنّ المفكّرين الإسلاميّين قد تعلّموها من الغربيّين؛ هذا خطأ فادح. الغرب تعرّف إلى هذه المفاهيم منذ ثلاثة أو أربعة قرون فقط؛ من بعد عصر النهضة، في حين أنّ الإسلام قد بيّن هذه المفاهيم بوضوح في القرآن قبل أكثر من 1400 سنة، والفرق يكمن بأنّ الغربيّين قد طرحوها ولكنّهم لم يعملوا بها بصدق أبداً -لم يعملوا بالحريّة ولا بالعدالة الاجتماعيّة- وهذه المفاهيم كانت في الإسلام وكانت تُطبّق في زمن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فعبارة ﴿وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ﴾ (الشورى: 15) هي عبارة القرآن؛ فالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مأمور بإقامة العدالة؛ هذه هي العدالة الاجتماعيّة والعدالة الشاملة. أو حينما تنزل آية: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ (الحديد: 25)؛ فهي تعني أنّ أساس بعثة جميع الأنبياء والرسل وإنزال الكتب كان من أجل إقامة هذا القسط -أي هذا العدل الاجتماعيّ، والعدل الاقتصاديّ- بين الناس. بناءً عليه، هذه المفاهيم هي مفاهيم إسلاميّة عريقة.
(*) كلمة الإمام الخامنئيّ دام ظله بمناسبة يوم المبعث النبويّ الشريف وحلول عام 1399 الهجريّ الشمسيّ بتاريخ 2020/03/22م.
1.نهج البلاغة، الخطبة رقم 1.